في ثمانينيات القرن المنصرم، التي جلبت لنا النحس من حرب ودمار وشهداء واعدام وموت.. وتبعات متعددة، ما زلنا ندفع فواتيرها الى اليوم  ..  كنا نلعب الكرة مع بعض أبناء المحلة، حينما وقفت سيارات السلطة قبالة بيت جارنا أبو كريم، الرجل الطيب صاحب الأسرة المحترمة التي لم تسجل عليها شائبة ما .. وكان ابنهم سعد (13 عاما) يلعب معنا، حينما ترجل رجل بوليس يسأل عنه، ثم اقتاده لبيتهم حيث اركبوهم جميعا في الباصات .. ولم نعرف بعد ذاك عنهم 

شيئا .

 الا انهم كانوا من جملة الاسر التي تم تسفيرها بحجة التبعية الإيرانية، بعد ان حجزوا بيوتهم وصادروا اموالهم. والحق يقال ان أبناء الشعب العراقي بسنتهم وشيعتهم، عربهم واكرادهم، متدينين أو علمانيين، لم يقدموا على شراء ونهب تلك البيوت العائدة للاسر مظلومة .. إلا القلة القليلة من ضعاف النفوس ممن يعتاشون على اوجاع  الاخرين في كل زمان وليس لهم هوية معينة .. تلك كانت جريمة سياسية كبرى تحمل طابعا جماعيا دقت اسفينا بتاريخ العراق المعاصر، إذ أسست للانفلات والاستحواذ على أموال مواطنين لا ذنب لهم. صباح أيام حزيران عام 2014  رن هاتف موبايلي ..  وكان المتحدث صباح خدر ( أبو سلام ) صديقي الايزيدي من أيام الثمانينيات، الذي خدمت معه بالجيش سنوات طويلة ..  وقد بكي قائلا:  (هل يعقل أن الإسلام يأمر بقتل الأبرياء ويغتصب ويسبي النساء والأطفال).. تألمت لهذا الرجل الطيب الذي كانت مواقفه تدل على شهامة ورحمة بالجنود آنذاك .. حاولت أن أهدئ من روعه وسألته عما جرى .. فقال: (نحن أناس مسالمون نعيش بوضع اجتماعي خاص منذ مئات السنين، وقد هجمت علينا عصابات داعش بدعاوى وشعارات تدعي تطبيق الشريعة الإسلامية .. وقد فعلوا ما فعلوا بنا، وقد هربت انا واهلي الى مناطق حدودية آمنة بعد أن تركنا كل ما نملك ..  ويا لسوء حالنا وحال من وقع بأيديهم الفتاكة بلا رحمة) .. فقلت له: ان العراقيين بكل مذاهبهم وقومياتهم واديانهم طيبون مسالمون لا ينتهكون الحرمات باسم الدين .. وان ما جرى عليكم وعلينا من قبلكم، ما هو إلا نتاج اجندات مخطط لها خارج الحدود، وان نفذ بعضها بأياد تدعي العراقية. أتذكر لصديقي الازيدي بعض المواقف الانسانية الطريفة الساذجة التي يتذكرها من عاشر الرجل وعرف بساطته .. ففي احد الأيام كُلف بواجب ضابط خفر معني بمتابعة الخدمات وتوزيع الارزاق .. وقد ازدحم الجنود من شدة التعب والجوع امام المطبخ حتى صعب على العمال التوزيع بسلاسة..  وبما ان صديقي نائب ضابط مكتبي لا يجيد استخدام القوة .. فقد اضطر الى ان يصعد فوق كرسي وينادي عاليا: اخوان نظموا أنفسكم بطابورين، الأول يقف فيه رجال الامن والتوجيه السياسي والاستخبارات وحمايات القائد والضباط والمراسلون، بينما يقف بقية الجنود من المرضى والمعاقين والرتب الصغيرة بالطابور الاخر ) .. وحينما انتظموا أمر عمال المطبخ بأن يوزعوا للطابور الأول قائلا: هؤلاء رجال السلطة .. بيدهم القوة ويمكن لهم ان يعاقبونا لأبسط الأمور .. لذا سنطعمهم أولا خشية العواقب  .. وما تبقى من اكل اعطوه لهؤلاء الجنود المساكين .. لأننا لا نخشاهم .. ولا احد يسمع شكواهم حتى وان لم نطعمهم  .. ضحك الجميع –  بمن فيهم الجنود البسطاء الذين كانوا يحبونه كثيرا -  وامتثلوا لأوامره ..  بينما تهامس اخرون عن كيفية سلامة هذا الرجل من الإعدام حتى الان..