علي حسن الفواز
الملف الاقتصادي هو أخطر ما تواجهه الدولة العراقية الجديدة، بوصفه "ملف العقد المفتوحة، والملف التي يمكن أنْ يُحيل الى قضايا تخصّ الاجتماع والسياسة والعمران والخدمة العامة، إذ يضعها أمام مشكلات أكثر خطرا، وأكثر تأثيرا على بنية الدولة، وعلى مسار مشروعها الوطني الصحي والأمني والسياسي والخدماتي، فما يجري الآن يكشف عن علاقة هذا الملف بكل الأزمات، وبكلّ تعقيدات الواقع السياسي،
حيث أزمة مراجعة ومراقبة النظام الاداري، وأزمة إدارة الثروة، وأزمة مواجهة الفساد، والتأمين الواقعي لمصادر الموازنات التشغيلية والاستثمارية، وحيث أهميته في البحث عن مصادر حقيقية لتعظيم واردات الثروة، مثلما تكشف -عقدة هذا الملف- عن رثاثة حقيقية لما يُسمى بطبيعة "الاقتصاد الريعي" وتأثيراته على صناعة نظام اقتصادي نامٍ وفاعل، إذ كشف تضخم ظاهرة هذا الاقتصاد عن تشوهات كبرى انعكست على حماية المجتمع والدولة، وعلى تأمين فرص عميقة لضبط ايقاع ومسار نظام الاشباع الاقتصادي، وتغذية حاجات البنى المؤسساتية على مستوى تأصيل ودعم الصندوق السيادي للدولة، أو على مستوى تنشيط حلقات الاقتصادات الصناعية والتجارية والسياحية والثقافية، لتكون بمستوى حاجات مجتمع نامٍ وفاعل كالمجتمع
العراقي..
الحديث عن المأزق الاقتصادي العراقي، ومحدودية فرص معالجته، يتطلب اجراءات ومسؤوليات كبيرة، وارادة أكبر، من خلال تأطير العمل الاقتصادي بسياسات حاكمة، وببرامج مستدامة، تحمي الثروة والاقتصاد من الهدر، وتحمي المصالح الوطنية من الفساد، مثلما تعني القدرة على البناء المؤسسي للدولة، الاداري والتخطيطي، وتلبية حاجات الدولة لتنظيم موازناتها التشغيلية والاستثمارية بطريقة عقلانية، والبحث الواقعي عن مصادر أخرى لتعظيم الثروة الوطنية، وبما يعزز ثقة الناس بها، ويجعلها أكثر تحوطا لمواجهة الأزمات الكبرى، ومنها أزمة انهيار اسعار النفط، وأزمة شح السيولة، وأزمة تضخم ظاهرة الفساد وضعف برامج الحوكمة
الاقتصادية.
عقدة الاقتصاد وعقدة إدارته
إنّ تضخم عقدة الاقتصاد العراقي، يكشف في جوهره عن سوء الإدارة، وعن ارتباطه بمظاهر خطيرة للفشل، والعجز، والذي تحوّل الى بنية مغلقة، أسهمت الى حدّ كبير في بناء مؤسسات مركزية، ونظام اقتصادي مترهل، وبنيات عمل غير قادرة على ممارسة التغيير، والتعاطي مع التحولات الحادثة في النُظم الاقتصادية الحديثة، وحاجات السوق، والاقتصاد الحر، فضلا عن دوره في إضعاف وسائل البحث عن أيّة مصادر جديدة لادامة الثروة، على مستوى عمل تطوير عمل المؤسسات الخاصة، ومؤسسات الاستثمار، وعلى مستوى مواجهة تحديات مظاهر الفساد، والترهل الإداري في النُظم المركزية.
هذه النّظم التقليدية تحولت الى عُقد قارة في البُنى الاقتصادية، وفي عدم تطوير حلقات الاقتصاد الاستثماري، وتنظيم آليات الاستيراد، وإدارة السياسة النقدية بشكل عادل، وبالاتجاه الذي يجعل من هذه السياسات أكثر قدرة على مواجهة ظاهرة الفساد، والحدّ من تضخم أقنعتها الاجتماعية والسياسية والإدارية.
عقدة الاقتصاد وعقدة السياسة
من الصعب الحديث عن مشكلة الاقتصاد بعيدا عن مشكلات السياسة، إذ يعكس الترابط بينهما واقع أغلب الأزمات والصراعات التي تواجه الدولة، بما فيها الصراعات التي تعيش تقاطعاتها القوى السياسية، والتي اختلط فيها السياسي بالايديولوجي، بالمصالح التي تراها هذه الجهة أو تلك، وهذا ما بدا واضحا خلال مقاربة الأزمات المعاصرة التي واجهت المجتمع السياسي بدءا من العام 2014، إذ تحولت أحداث الموصل الى منطقة خلافية، انعكست على التعاطي مع الاستحقاقات السياسية، بما فيها استحقاق رئاسة الوزراء، والذي احدث قطيعة كبيرة، اختلطت فيها تداعيات دخول عصابات داعش الى عدد من المدن العراقية، فضلا عن تداعيات الواقع الاقتصادي وهبوط أسعار النفط، وسياسات التقشف التي اتّبعتها حكومة العبادي، وتخصيص ميزانية استثنائية للمؤسسة الأمنية، ولتحقيق النصر الكبير على عصابات داعش الإرهابية العام
2017.
إنّ تضخم عقدة الاقتصاد أضحى قرينا للعقد التي استشرت في المشهد السياسي، إذ انعكس ذلك على عمل الحكومات العراقية المتعاقبة، وعلى طبيعة تحدياتها الاقتصادية، وعلى ترسيم حدود موازناتها التشغيلية والاستثمارية، فضلا عن علاقة ذلك باستمرار تضخم ظاهرة الفساد، وتضخم البنية الوظيفية للدولة، ولمؤسساتها، من دون معالجة تُذكر، فما حدث بعد حكومة السيد العبادي، واختيار السيد عادل عبد المهدي لرئاسة حكومة لم تكمل مشوارها الحكومي، لتستقيل تحت ضغط المطالب الجماهيرية، وتحت ضغط التقاطعات السياسية بين الفرقاء، وليبدو المشهد أكثر اضطرابا، وأكثر تعبيرا عن وجود عقدة السياسة الضاغطة، وعن ضعفها بمواجهة أزمات أمنية واقتصادية وتظاهرية، وهو ما بدا واضحا من خلال تخلي مرشحين للحكومة فشلا في الحصول على قبول القوى السياسية في البرلمان، أو خارج البرلمان، وصولا الى اختيار السيد الكاظمي لرئاسة الوزراء، كاستجابة وطنية، ولإيجاد نوع من الحلِّ للازمات والعقد الضاغطة على الواقع السياسي، وعلى ظروف الواقع الاقتصادي الصعب، والذي يعاني من تحدٍّ كبير، ومن عجز من الصعب السيطرة على تداعياته وسط ظروف غاية في
التعقيد.