حسين السلمان
كل شيء يحيط بي قد أصبح على غير ما ينبغي له أن يكون. هذا القول الذي صدر عن جورج هيغل مقارب في الكثير من الحالات لما نحن عليه الآن في زمن هذا الوباء الرهيب، الذي رفس بقوة كل جبروت الإنسان وما توصل إليه من تقدم وتطور.ففي مرحلة كورونا وما بعدها خلقت حالة مريبة من الانقطاع في العديد من القطاعات الاجتماعية الحيوية، كان منها الانقطاع في علاقة الطلاب بأماكن دراستهم، وكذلك في التفاعلات بينهم وبين زملائهم ومدرسيهم في المدارس والجامعات،
فصار (التعليم عن بعد) بديلًا عن عمليات الحضور والتفاعل الفعلي المباشر الحي، وازدادت حالات الميول إلى الأبحاث والتقارير التي شكلت نسبة 30 % من الدرجة الكلية وعلى المستويات كافة. كما حدثت انقطاعات في عمليات ذهاب الجماهير لمشاهدة مباريات كرة القدم في الملاعب، وكذلك في متابعة الناس لهذه المباريات في المقاهي أو البيوت، وحدثت انقطاعات وعمليات توقف خطيرة في أرزاق أناس كثيرين خاصة هؤلاء الذين يعملون بأجر يومي، وفقد كثيرون أعمالهم ومصادر دخلهم في أماكن كثيرة في العالم.
مدن العالم خاوية بفعل كورونا
هكذا انقطعنا عن عالمنا وقبعنا في بيوتنا، فصار العالم بالنسبة إلينا عالمًا شبه شبحي، صرنا أشباه أشباح نرقب العالم من بعيد ونتحين أية فرصة للعودة إليه وأن ننظر إليه بعد أن صار هو الذي ينظر إلينا، وازدادت رغبتنا في أن نذهب إلى الأماكن التي نحبها، وأن نلتقي بالناس الذين نميل إليهم، أن نخرج من هذه البيوت التي أوشكت أن تصبح أشبه بالمقابر التي يعيش فيها بشر من الموتى الأحياء، هكذا عجزنا عن مديح العزلة، التي أحبها كازانتزاكي ومدحها على لسان زوربا بقوله: (لدي حب جارف للعزلة والصمت، إلى درجة أنني أستطيع أن أقضي ساعات وأنا أحدق إلى النار أو البحر من دون أن أحس بالحاجة إلى أي رفقة ..).
ما بعد الصدمة
لقد أحدث وباء كورونا الحالي صدمة مذهلة لدى معظم البشر، سواء كانوا أصيبوا به على نحو مرضي أم لا، وإنه لوباء سوف يترك آثاره النفسية والمادية والاجتماعية الكبيرة بعد أن يتراجع. في كتابه (ما وراء مذهب اللذة) قدم فرويد بعض الحكايات الخاصة بشأن بعض الناس الذين عانوا من حالات مرضية مخيفة (هي ما تعرف الآن باسم اضطراب مشقة ما بعد الصدمة، قد حدثت عقب بقائهم أحياء، بعد مرورهم بحرب مدمرة أو حادثة طريق أو اضطرابات عنيفة أو أوبئة قاتلة، وشعروا أنهم قد اقتربوا خلالها من الموت فعلا، إن لم يكن اقترابا فعليا، فعلى الأقل، على مستوى التصور والتوقع والاحتمال. وقد أشار فرويد كذلك إلى أن تلك الاضطرابات، التي عانى منها هؤلاء الناس، لم يكن سببها ذلك التهديد الفعلي الذي شعروا به عندما اقتربوا من الموت، ولكن كان سببها ما أصابهم من دهشة أو ذهول مصاحب لذلك التهديد، وإنه لذهول قد تحول إلى رعب، ورعب تخلله أيضا قلق جارف عنيف. وإن ذلك كله لم يحدث لأنهم واجهوا الموت، بل لأنهم، لم يكونوا قد أعدوا أنفسهم (على نحو مناسب) لمثل تلك المواجهة، أو بالأحرى لمثل تلك الصدمات. ومن ثم فإن تلك الصدمة قد حدثت نتيجة ذلك الصدع، أو ذلك الانقطاع المفاجئ الذي طرأ على تلك الخبرات المتعلقة بالزمن أو الوقت الخاص بهم، ونتيجة أيضا لحالة الذعر المصاحبة التي هيمنت عليهم. إن هذا الصدع، في رأينا، هو نفسه ما أصاب العالم عندما تم الإعلان عن ظهور وباء كورونا في ووهان في الصين في بداية هذا العام، ثم اجتاح العالم بعد ذلك. فقد حدث انقطاع مفاجئ في الحياة كلها، وحدث تعليق مؤقت لها قد يطول أيضا، وبدا العالم وكأنه عالم آخر، عالم لم يعهده البشر أبدا هكذا، عالم حدث فيه قطع في الزمن ووقع فيه صدع في العلاقات وطرأ عليه انفصال في الوعي وتفكك في الوجدان، فأصيب الناس بالذهول والخوف ووقعوا في براثن الضغوط القاسية، هكذا أصبح هذا العالم قريبا من وصف هيجل لحالة الشك والريبة وفقدان اليقين التي وقع هاملت في براثنها فأدرك، كما قال هيجل: "إن كل شيء يحيط بي قد أصبح على غير ما ينبغي له أن يكون"، لقد تزايدت الضغوط التي جلبتها التأثيرات الكورونيالية معها، ومعها أصبح كل شيء في حياتنا ليس كما ينبغي له أنْ
يكون.