القصف التركي وخراب أنقرة

آراء 2020/06/18
...

علي لفتة سعيد
 
يبدو أنَّ البقاء في السلطة لفترةٍ طويلة يصنع من الشخصية أن تكون قابلة للتحوّل الى سلطة قاسية أو حتى دكتاتورية وتتحوّل الانتصارات والسياسات الناجحة التي تبدأ بها سنوات الحكم الى سياسات قابلة للخسارات الكبيرة التي جاءت بفعل الشعور بجنون العظمة.. ولنا في التاريخ الكثير من الشخصيات التي حكمت في البداية بطريقةٍ جميلة جعلت الناس تصفّق وتؤيّد وتركض ثم تحوّلت الى قبضةٍ قويةٍ لا تتوانى عن القتل وخوض الحروب وإصدار قرارات لزيادة القبضة وتقلّل من حرية الناس، فيبدأ الأمر بالسير في الاتجاه المعاكس للبداية.
 
 لا نريد أن نقول تجارب العرب في عهد صدام والقذافي ومبارك وجعفر نميري وزين العابدين، ولا في أوروبا تشاوشيسكو وقبله هتلر وآخرون.. والتي بدأ كل منهم التحوّل من رئيسٍ الى زعيم ومن ثمّ الى قبضةٍ، وتبدو كلمة الزعيم هي مفتاح التحوّل الأكبر.. وما قام به الرئيس الأميركي الممثل رولاند ريغان حين انتصر في حرب النجوم مع الاتحاد السوفيتي وأراد أن يغيّر الدستور الأميركي ليحصل على ولايةٍ ثالثة أوقفته المؤسّسات الأميركية التي انتظمت وعرفت أن أيّ رئيس إذا ما تسلّم الحكم لثلاث دورات فإن البلاد لن تكون بعدها في حالة استقرار.
فهل رجب طيب اردوغان من هذا الأنموذج الذي يؤدّي الى انهيار الدولة التركية بعد النجاحات التي حقّقها طوال السنوات الماضية التي لم تبدأ من كونه رئيسًا للوزراء منذ 2003 ولمدة 11 عاما وبعدها رئيسا للجمهورية ولم يزل حتى الآن، بل بدأت منذ أن كان رئيس بلدية أشهر مدينة في العالم وأجملها اسطنبول من العام 1994 ولمدّة خمس سنوات تقريبا.. إن هذه النجاحات والخطط التي وضعها اردوغان جعلت من إسطنبول قبلة السياحة العالمية وحقّقت نموا اقتصاديّا كبيرا تسارع عبر سنوات من العمل المخطط له، وحين أصبح رئيسا للوزراء زادت مشاريع الاستثمار في كل البلاد وأصبحت تركيا عبارة عن بساطٍ أخضر ينمو بسرعةٍ ليغطّي الاقتصاد جميع المواطنين حتى أن نسبة العاطلين عن العمل تقلّصت الى حدٍ كبيرٍ واختفى دور المعارضة. 
 لكن هذه النجاحات يبدو أنها لن تمرّ من دون الشعور بجنون العظمة كما يصفه البعض، ورغم أنه من حقّه التفاخر بإنجازاته وقدرته على إدارة البلاد، لكن الأمر قد لا يبدو محسوبًا بدقّة خاصة وإن توجهاته الدينية وخلفياته التي كادت تطيح به وأدت الى اعتقاله ليؤسس بعدها بمفرده حزب (العدالة والتنمية) ويستقطب فيه خيرة السياسيين الأتراك وكبار العسكريين وتغيير حتى فقرات الدستور ليكون الرئيس صاحب الصلاحيات الكبرى وكلّها مؤيّدة من الشعب، لأن أردوغان جلب لهم السعادة وكانت الليرة التركية الأعلى بين عملات العالم.. بل إن تركيا اقتربت كثيرًا من الانضمام الى الاتحاد الأوربي صناعيّا واستثماريا وسياحيا لولا الجانب السياديني الذي تنحدر منه الحكومة 
التركية.
ولهذا فإن الأسئلة التي يمكن أن تطرح: ما الذي حصل لتركيا ليكون هناك تخوف من انهيار كل شيء؟ وهل هناك انهيار مقبل؟ وهل الحكومة التركية المتمثلة بشخص رئيسها سيكون المسؤول الأول عن أي انهيار قد يحصل؟، وما هي ردة الفعل التركية أساسًا امام التخبط المستمر بما فيه قصف المناطق العراقية؟، وهل ستبقى الدول الكبرى تنظر الى زيادة القوة التركية من دون ان يكون لها فعل ورد الفعل معا؟.
إن الإجابة عن هذه الأسئلة يحتم علينا الدخول في متغيرات السياسة التركية التي بدأت من رفض الاتحاد الأوربي لانضمامها الى تكتلهم الاقتصادي، وخصوصا ألمانيا التي تتهمها بخرقها لمبادئ حقوق الإنسان واحتلال جزء من قبرص التي يطلق عليها قبرص التركية وهو ملف تشترك فيها اليونان، رغم أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي أو الناتو، وهو ما يجعل ردّة الفعل التركية أن تكون معاكسةً تماما، فراحت تتدخل في هذه الدولة أو تلك لإثبات أحقيتها كدولةٍ معاصرة لها قوة اقتصادية قوية، فضلا عن الصراع القديم الجديد بين اميركا وروسيا من جهة وأميركا والصين من جهة أخرى وأميركا والاتحاد الاوربي من جهة مخفية.. لتجد وريثة الدولة العثمانية نفسها قادرة على ان يكون لها صوت السلاح المدعوم شعبيا واقتصاديا، لذا كان التدخل في العراق وسوريا ثم قبرص.. ليكون التحرّك الأخير على الساحة العربية الخليجية خاصة وبعدها التدخل في ليبيا منطلقا من الواقع المرجعي للحزب أكثر منه من الواقع الاقتصادي، بمعنى أن تركيا تبحث عن السلفية في علاقاتها سواء كانت هذه العلاقات مع السعودية أو قطر، وتبيان معرفة أيهما أقرب الى هذا التحوّل الدراماتيكي الذي يختلف اختلافًا جذريًا عن التدخل في الشأن السوري. 
إنَّ الجواب الثاني على ما يطرح من أسئلة هو أن تركيا تعد منطقة الشرق الأوسط هي منطقتها؛ لذلك كانت تحتاج الى بعد براغماتي بطريقتها الخاصة التي تشبه عملية جرّ الحبل السياسي، فهي تارة مع روسيا في الشأن السياسي السوري وتارة مع أميركا في الشأن الاقتصادي والشأن الإيراني، حيث المواجهة الأميركية الإيرانية، لكن حساباتها أوقعتها في خطأ القبول الأميركي الكلّي كما كانت تتصوّر، فكانت العقوبات التي أدت الى انهيار الليرة التركية الى حدودٍ قاسية، والتي أدّت الى اشتعال حدّة المعارضة التي واجهها بالحديد والنار والسجن والإبعاد، مثلما زاد من حدّة المواجهة مع أميركا في موضوعة حقوق الإنسان التي تعد الورقة التي تلعب فيها أميركا وتعرضها أمام وجوه من يعارضها.
إنَّ الإجابة الثالثة الخاصة بالشأن الليبي ربما تكون هي البوابة الكبرى لانهيار الدولة التركية إذا ما أخذت السلطة هناك من التحوّل من كونها حكومة الى كونها قبضة قوّة، وهو ما يعني أن التدخل في الشأن الليبي لم يكن وليد فكرةٍ دينية سلفية فحسب، بل هو وليد إبراز القوة والسيطرة على النفط في وقت انشغال العالم بأزمات السياسة العالمية وخروج بريطانيا من محور الاتحاد الأوربي والصراع مع الإرهاب ومن ثم الصراع مع انخفاض أسعار النفط ليتوّج الصراع بفيروس كورونا، لكن تركيا جمعت الأسباب في كفّةٍ واحدةٍ لتنطلق الى أبعادٍ أخرى من خلال الشأن الليبي الذي تريد من خلاله إذا ما نجحت الامتداد الى أماكن أخرى. بينما تترك القبضة الأخرى على الداخل التركي في مراقبة المعارضة التي ستخرج في أية لحظة، فلعبة الحبل ستتحوّل من الجهة التركية الى الجهة الأخرى التي تتربّص بها.
في حين تتمحور الإجابة الرابعة على الانتقال من الفعل الى ردّة الفعل وخاصة في ما يتعلّق بقصف المناطق العراقية على أساس أنها تطارد عناصر حزب العمل الكردستاني وفي شمال العراق الذي يعد انتهاكا للسيادة الوطنية وهي ردّة فعل غير محسوبة كونها لا تنتهي ولن تتوقّف عمليات حزب العمال رغم انه لا يقوم كما كان قبل تسليم عبد الله اوجلان نفسه، فضلا عن التطورات التي تحصل في الشمال السوري.. بمعنى ان عمليات القصف على الاراضي العراقية ليست هي فعلا يراد به نتيجة، بل ردة فعل لفعل الشعور بالبقاء داخل فكرة ان تركيا هي الأقوى وبإمكانها الوصول الى أية منطقة، وهو أمر قد يسبق الانهيار بخطوات 
السنوات. 
أما الإجابة الخامسة فهي أن دول العالم تنظر الى تركيا على أنها فرصةٌ مقبلةٌ للإطاحة بها، كما هي تبحث عن فرصة للإطاحة بإيران من خلال اللعب الهادئ أو السياسة النظيفة أو المخفية، وهي قد فعلت ذلك مع النظام العراقي السابق حين تمادى صدام أيضا وأصبح مصابًا بجنون العظمة، فقد تركته الدول العظمى يفعل ما يريد ويواجه من يريد لتأتي الضربة القاصمة بعدها لينتهي النظام وينتهي العراق ايضا الى صراعات لم تنته حتى الآن، والذي دائما ما يردّد شعبه (خراب البصرة) نكاية في ما يحصل من عذابات ومتغيّرات.. لذا سيكون السؤال هل تشهد تركيا (خراب أنقرة؟).