التحايل على الوباء!

آراء 2020/06/22
...

علي شايع
 

طيلة أزمة كورونا، وتفاقم المخاوف من انتشار الوباء، لم تعلن دول أوروبية حظر التجوال التام، أو منع الخروج من المنزل، كما فعلت بلدان الشرق، ولكن وضعت شروطها لترخّص حالات وحجب أخرى للضرورة، من دون مساس حرية المجتمع، باعتبارها المعيار الأول، وبيضة قبان الحياة الأهم، إذ يسمح للجميع بالخروج لكنْ بقيود مفروضة على المتخطي عتبة داره، فوجوب مسافة فاصلة بين الأشخاص، أول إجراء بادرت به هولندا مثلاً، بفرض متر ونصف كحدّ أقل للتباعد في الأسواق والأماكن العامة، مقرّة غرامات مالية باهظة للمخالفين.
كان التباعد الاجتماعي طريقة لتحجيم انتشار الفايروس وتراجع عدواه بشكل لافت في أكثر البلدان الأوروبية، فالتزاور للأفراد من غير الأسرة قيّد بعدد، مع اختلافات بين البلدان، ومنع صعود أشخاص بمركبات النقل الشخصية ما لم يكونا من سكنة بيت واحد، وأغلقت المطاعم والمقاهي في الإنذار الأول، ومع افتتاحها الجزئي فرضتْ أعدادٌ للداخلين، والمتواجدين بمن فيهم طاقم المطعم أو المقهى، مع حساب حجم المكان وممراته الداخليَّة.
فرض التباعد الاجتماعي رغم طارئيته لم يُعجز الدول المتقدمة بإيجاد الحلول وتبادل منافعها، والشروط الصحية الموضوعة سلفاً أسهمت بتسهيل وترشيد وسائل مواجهة المشكلة بشكل بيّن، وبدا الفارق الكبير في ثقافة البلدان واضحاً، وجلياً للراصد، وكانت الصدمة الأولى للوباء قد كشفت نقاط الضعف والخلل في المجتمعات الأوروبية، التي سرعان ما وجدت حكوماتها وأهل الشأن في إدارة أزماتها الأساليب الملائمة لتخطيها، فالقانون يأخذ مسراه على الجميع كأوانٍ مستطرقة، كما تعلمنا صغاراً عن سريان الماء واعتداله المستوي، والأفكار النافعة لمواجهة الخطر تثمّنها الدولة وتشتريها من أي كان.
قبل مدّة كنت أطالع كتاب (الرحلة الأميركية - 1912) وهو من أدب الرحلات للأمير محمد علي باشا، وصي عرش مصر ما بين وفاة الملك فؤاد الأول وجلوس ابن عمه الملك فاروق. الرجل ألّف كتاباً عن زيارته لأميركا، ومن طريفه يروي بفرح كيف وصل بهم القطار الى محطة غرب أميركا اسمها بغداد، ولم يستغرب لما لبغداد العرب من مجد، تستعيره الدولة الكبرى.
ويسجل الكاتب وقائع معالجات لمشكلات عاينها، مبهوراً بأمثلة تبدو بسيطة وعابرة، كاستعمالهم أدوات متيسرة- كأنه يقول إنها متوفرة في بلداننا أيضاً- لكنهم يستثمرونها لاستغلالها الأفضل، على سبيل المثال، يروي بدهشة كيف يحدلون الطرقات، مستخدمين قطعة حديدة عريضة تجرّها مجموعة من الخيول، لتسويتها بأقل الكلفة، وأمثلة إدارية أخرى، تثبت أنَّ هذه البلاد كان تستعير الاسم الجميل لبغداد مثلاً، وتشتري الفكرة السهلة الصائبة للإعمار والبناء. 
الكتاب وتدويناته مرّ عليها أكثر من مئة سنة، ولو قُدّر لمدوّن ما تسجيل إجراءات الحكومات الأوروبية بمواجهة الوباء الآن، وكيف تم تذليل الصعوبات، بواقعية ومسؤولية الدولة والأفراد، من دون احتيال على القانون فعلاً وقولاً، لتعجبت أجيالنا بعد قرن من ابتكاراتنا أيضاً، ولكن لطرق ووسائل تتحايل على فرض التباعد في بلداننا العربية، وكأنَّ الوباء لدى بعضهم مزحة أحباب، تتساقط فيها حتمية الواجب، ويشرّع فيها للحيلة وانتهاك الشروط: وقالت على اللثم اشترطنا فلا تزد فقبلتها ألفاً على ذلك الشرط