رؤية من الداخل!

الصفحة الاخيرة 2020/06/23
...

 جواد علي كسّار
 
يعيش في كندا قريباً من أميركا، يتابع الشأن الأميركي الداخلي منذ سنوات طويلة، عبر الإعلام الأميركي في كندا، هذا الإعلام الذي يستحوذ على مساحة 80 ٪ من الحجم الكلي للإعلام، ولا يترك هامشاً للإعلام الكندي المحلي يزيد عن 20 ٪، كما يقوم بزيارات منظمة إلى مختلف الولايات المتحدة، ليجمع معايشة الميدان ومراقبة الشارع والحوادث والتأمل بالناس، إلى جوار المعرفة النظرية.
في واحدة من محاوراتنا التي سبقت الموجة الاحتجاجية الحالية، وانطلقت مع مقتل جورج فلويد ثمّ تجدّدت حدّتها للمرة الثانية مع سقوط ضحية جديدة، هو المواطن الأسود ريتشارد بروكس في أطلنطا الجمعة الماضية؛ في واحدة من تلك المحاورات ذكر لي صديقنا المختصّ بالشأن الأميركي، أنه يخشى من بوادر صراع خفي سيظهر إلى السطح بشرارة ما، وقد كانت الشرارة فعلاً هي اغتيال الشرطة لجورج فلويد خنقاً.
لم يكن يقصد بهذا الصراع انطلاق الاحتجاجات، فالاحتجاجات عُرف تعوّدت عليه أميركا منذ تأسيسها حتى اليوم، بل صراع بين جناحين؛ جناح أنصار الدولة الأميركية العميقة، دولة المؤسّسات والنظم المستقرّة، ومراكز التفكير، والاقتصاد الأول في العالم والثروات الهائلة، ودولة الحزبين اللذين يتناوبان على الرئاسة والكونغرس وبقية مرتكزات السلطة؛ وبين الجناح الآخر المتمثل باليمين الصهيوني المتطرّف؛ هذا اليمين الذي يرى عظمة أميركا لصالح أميركا في الداخل وحسب وليس بالخارج، ويقف موقفاً مناهضاً ضدّ أن تكون أميركا دولة عالمية، وله موقف مبدئي صريح رافض ضدّ السود والمهاجرين والأعراق غير البيضاء، ويعتقد أن ما تنفقه أميركا من أموال في الخارج، هو هدر للثروة وإضرار برفاه الداخل الأميركي، لذلك يطالب بانكماش الحضور الأميركي في العالم، وتمركز قوّتها العسكرية والصناعية وثرواتها في الداخل وحسب.
يذكر صاحبي أن للجناحين كليهما وجودا ركائزيا عميقا داخل أميركا، كانت الغلبة فيه لأنصار المؤسّسة التقليدية، ودعاة الرسالة العالمية وأميركا السعيدة بحسب عالم الاجتماع الفرنسي ميشال كروزيه، وأن تكون أميركا هي الأولى في العالم وطليعة العالم الحر، والرمز المتقدّم للحضارة الغربية، بصفتها الحضارة الأولى، بل الخيار الحضاري الأوحد لإنسان الأرض!
ما فعله ترامب وفي ظهره اليمين المتطرّف، أنه دفع صراع الجناحين إلى قلب السلطة ومؤسّساتها، وهذا ما يفسّر برأي صاحبنا تحرّك (260) مدينة منتفضة في مجمل أميركا، فهذه الحركة ليست ردّ فعل على ثقافة اعتادت عليها أميركا منذ تأسيسها، تقوم على التمييز العنصري وغياب العدالة، أو واقعة تتكرّر في أميركا ثلاث مرّات يومياً على الأقلّ، يسقط في جميعها ضحايا من السود؛ بقدر ما هي حركة مقصودة ومنظمة من أنصار الدولة العميقة، ضدّ اليمين المتطرّف الذي يمثله وجود ترامب في البيت الأبيض. من أدلة ذلك هو التلويح ولو من بعيد، بمخاطر هيمنة ولايات الشمال ضدّ ولايات الجنوب، في مشهد يعيد الذاكرة الأميركية إلى صراع الشمال والجنوب.
وهذا برأي صاحبي خلل بنيوي في المعادلة الأساسية لاستقرار أميركا نفسها، فالمعادلة في السابق: إذا مُسّت أميركا بتهديد خارجي يتوحّد الجميع، بخلاف الاستقطاب الحالي، الذي يمسّ وحدة أميركا الداخلية بعد أن تحوّل إلى صراع داخل بُنية السلطة نفسها، وظهر بشكل تناقضات في المؤسّسة الحاكمة.
يبقى اليسار الأميركي وموقعه بين الجناحين المتصارعين، قصة أخرى تحتاج إلى وقفة مستأنفة!