في الأسابيع الأخيرة بدأت عصابات (داعش) الارهابية بالتقاط أنفاسها في بعض المناطق الرخوة في العراق، مستغلة انشغال الدولة العراقية بوباء كورونا وهلع الأهالي، وتوجه الكثير من عناصر القوى الأمنية نحو واجبات تخص الصحة العامة.وتشير بعض الدلائل الى أنَّ خطابات التنظيمات الإرهابيَّة منذ تفشي وباء (كورونا) كانت بمثابة محاولة لتعويض الخسائر، سواء بالعودة للمناطق التي خسرتها هذه التنظيمات او بحشد عناصر جديدة، والإيحاء بقوتها الوهميَّة،
من تفجيرات متفرقة، وانتقاء البعض من الأهالي مستخدمة العنف بأقصى أشكاله، لبث روح الحماس، ورفع المعنويات في الاتباع، كمحاولة لكسب المزيد من الانصار، مستفيدة من حالة الهلع والتخوف من كورونا، موظفة الخرافة في تفسير هذه الجائحة.
بالمقابل نلاحظ أنَّ الحكومة العراقية وبالفترة الأخيرة، أطلقت المزيد من العمليات والحملات الكبيرة وبمختلف صنوف القوى الأمنية، لقطع الطريق أمام نشاطاتها في أقصى المناطق التي اعتادت هذه العصابات على ممارستها للخروقات فيها.
دائماً توصف "داعش" بأنها عدمية، أي أنها في كثيرٍ من الأحيان تمارس العنف من أجل العنف، ولإشاعة الإرهاب فقط، فهي لم تكن لتأبه الى تجربة (دولة الخلافة المخفقة) ودروسها الفاشلة فيها، فمشروع (داعش) لا يختلف عن ستراتيجيات الإرهاب بنماذجه القديمة والراهنة، فعندما يقال عنها بأنها بلا مستقبل، أي أنها لا تملك تصوراً لنظام ما او حتى يوتوبيا محددة، وهكذا فبرامجها لا تمضي الى الأمام، وهاجسها الأصلي هو تدمير الآخر، واذا فشلت فلتدمير الذات.
وهكذا فعصابات داعش دمرت دولة ((الخلافة)) بالعنف، ثم عادت اليوم بعمليات عنفية مكتوب عليها الفشل مسبقا، لتتدمر ثانية.
فالإرهاب قوة منفعلة، وليست مؤسسة، أي مكتفية بالفعل المحض ولا منتجة لمشروع لاحق.
الإرهابيون الروس في القرن التاسع عشر مثلا، كما يكتب - البير كامو- في (الانسان المتمرد)، لم يفكروا بأي نظام سوف يخلف مقتل القيصر، فهدفهم تدميره فقط، واذا أخفقت هذه الخطوة، فسيكون تدمير ذواتهم الخطوة الثانية.
لا تختلف "داعش" كثيراً او كل فصائل الإرهاب التي ظهرت في الأحقاب اللاحقة عن هذا التوصيف العمومي كثيراً، أما عن الحواضن الاجتماعية التي يتحدثون عنها، فينبغي البحث عن مسوغاتها خارج فلسفة الإرهاب، اي بمقاربات سياسية واجتماعية، او ردة فعل ازاء أنظمة تعسفية، سيطرت عليها طويلاً وجعلتها تقبل حتى بالدعوات الخرافية ناشدة الخلاص، اما انجذاب الافراد من بلدان الغرب لها فهذا يعزى بالضرورة الى ما آلت إليه الايديولوجيات الكبرى، وتفشي حالات اللامعنى وافتقاد القيم، التي أفرزت بعض شرائح الشباب الغربي المتازم.
ونحن لا نملك ازاء هؤلاء المترفين سوى أنْ نندهش لتهافتهم نحو العمليات الانتحارية التي يقومون بها.
فاذا كانت المجاميع الإرهابية قد حققت موطأ لها بفضل مقدسها!! الخاص، فإنَّ هذا الإنجاز الطارئ لم يستمر طويلاً، فلقد شهدنا انفصالاً بين مشروعها في (دولة الخلافة)! وممارساتها الإجرائيَّة العنفية، فالدواعش لا يمكن أنْ يبقوا او يستمروا بلا عنف، ناهيك عن كونهم انتحاريين بشفاعة متصورات أخروية، أقنعت البعض ممن تشوشت عندهم الرؤية، وانتحاريتهم هذه شكلت مخالفة ومقاطعة للشريعة الاسلامية ومبادئها.
فالعنف المفرط لديهم، بالأمس واليوم، يؤشر تماماً الى الافتراق ما بين الدعوة والسلطة، وهذا يتطابق مع أطروحة الفيلسوفة - حنة ارندت - في كتابها - في العنف - (ان عامل التفتت الداخلي الذي يواكب انتصار العنف على السلطة، يكون واضحاً بشكل خاص حين يتم استخدام الارهاب من اجل الحفاظ على الهيمنة، والارهاب ملازم للعنف، بعد ان دمرت السلطة الاولى.
وهكذا يكون العنف اللاحق بعد أن دمرت السلطة القائمة قد قاطع دعواته ومرجعياته، كخطابات بغية التمهيد للهيمنة، فيصبح عند ذاك ضرورة إعادة دورة انتاج الهيمنة وتكريسها عبر أشكالها الحقيقية والرمزية.
فالعنف في الصور القديمة التي ظهرت سابقا على مواقع إعلام عصابات داعش في إعدام الكثير من العراقيين في محافظة -نينوى - وغيرها تصر على ممارسته دائما في إحداث الأثر العنفي الاستباقي - عند الرائي او المتلقي-.
فصور عصابات داعش العنفية كما كنا نشاهدها قبل سنوات وعلى نطاق واسع كانت تفرض حضورها، فقد اوغلت في غرز فاعلية العنف المتوحش بقوة الصور التي تطوقنا، اذ كانت تضع الرائي قبالة تهديد محتمل الوقوع، واكثر ما أعتقده أن الذاكرة العراقية ما زالت طافحة من مخلفاتها.
ومثلما تفوقت (عصابات داعش) بالأمس في انتاج وممارسة أبشع مشاهد العنف في التاريخ، تظهر اليوم معانقة وباء كورونا محاولة توظيفه ليؤدي مشهداً من الهلع والعنف
المزدوج.