الفقه ونزعة التغيير عند الشهيد الصدر الثاني

آراء 2020/06/28
...

د. سليم جوهر
تمثل العلاقة بين الفقيه والمتدين الشيعي بالعموم علاقة ذات نمط فردي، التي انتقدها محمد باقر الصدر، في بحثه (الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد)، فعلل سبب اقتصار الفقه على الفرد لأن الفقيه حين استنباط الحكم الشرعي "يتمثل في ذهنه صورة الفرد المسلم الذي يريد أن يطبق النظرية الاسلامية للحياة على سلوكه، ولا يتمثل صورة المجتمع المسلم الذي يحاول ان ينشئ حياته وعلاقاته على أساس الاسلام"، وعزا لها السبب في عدم تطور الفقه الشيعي مجتمعيا، 
او حسب تعبيره "انكماش الفقه من الناحية الموضوعية" وتسرب النزعة الفردية الى ذهنية الفقيه نفسه. هذه العلاقة لم تتح للفقيه الشيعي التدخل في الشأن العام وتوجيه مساراته، مما دعا بعض الفقهاء الى انتهاج أسلوب آخر في التعامل مع المجتمع، فدعا محمد الصدر الى ان يثقف كل طالب حوزة خمسة أفراد من المجتمع في الأمور العامة، لإحداث تغيير مجتمعي (موجة مجتمعية) تشبه الموجة التي تحدث نتيجة إلقاء حجر في الماء، فكلما امتد الزمن تكبر الموجة. لقد كان الغرض الذي يسعى له هو أن يحدث تغييرا جوهريا في هذه العلاقة ولم ينجح، وترك وحيدا في النجف يواجهه ظلم السلطة الغاشمة وعنفها الدموي الذي انتهى باستشهاده. ونجح في ذلك الصدر الثاني، فصلت خلفه في جامع الكوفة أعداد مهولة في ظاهرة مجتمعية دينية لافتة، فكيف حدث هذا التحول. يقول الشيخ محمد رضا النعماني في كتابه (سنوات المحنة والحصار)، في الفصل الثاني وهو يروي أحداث الاحتجاز في منزل السيد الصدر ومنها أن مجموعة من الناس ارسلوا للسيد رسالة تخبره بأن لديهم النية والعزم على فك الحصار عن منزله ولو أدى ذلك الى الصدام مع القوات الأمنية ولو أدى الى قتلهم، وقد أخبر الشيخ الصدر (أن بعض هؤلاء غير معروفين بالتدين). وعندما نفذ هؤلاء ما عزموا عليه قال السيد مقولته التي كانت المنهاج الذي سار عليه الشهيد الثاني، فقال للشيخ النعماني ((لو قدر للحجز ان يفك عنا، وتعود الامور الى طبيعتها فسوف أصرف قسما كبيرا من الحقوق الشرعية على تربية هؤلاء)). لقد تلقف محمد محمد صادق الصدر هذه الفكرة وبنى عليها مشروعه التغييري، على مستوى الفقه وعلى مستوى قيادة المجتمع لغرض التغيير المنشود انطلق محمد الصدر من فكرة يمكن تلخيصها بأن العمل مع الناس المحتاجين هو الأسلوب الأمثل لقيادتهم بديلا عن العمل لأجلهم. فهو يثق بشجاعتهم وخبراتهم في الحياة، وطبيعة ردود الافعال التي اكتسبوها من معيشتهم في الحياة العامة وانغماسهم في صراع مباشر مع أجهزة الدولة ومؤسساتها، وطبيعة المواقف العاطفية التي تستجيب للنداء النبوي. 
ان التحول الاجتماعي من خلال العمل وتصميم الفعل داخل حركية الناس في بناء المجتمع يعطي للناس حرية العمل بشكل أكبر، ويعلمهم العمل المشترك، عبر فعل مصمم ومعرفة ومشاركة جماعية: تصميم الفعل ميدانيا: يستهدف بناء المواقف الاساسية للجماعة بشكل يجعلها تسير باتجاه مسيطر عليه نحو الادارة الذاتية، وخلق نوع من التحرر من التقليد المقيد للحرية المجتمعية، وتحقيق ذات مجتمعية كبيرة وفاعلة.. معرفيا: من خلال بناء منظومة فكرية تتناسب مع هذا الحراك المجتمعي، فكانت كتاباته الفقهية تلامس المجتمعي المهمش وغير المطروق، وبناء كينونة انسانية فاعلة عبر نتاج ضخم، وخاصة في تناوله لما وراء الفقه.. المشاركة: قيمة اجتماعية تسهم في ضبط مواقف الناس ووضع النتائج موضع التطبيق، فحدث تغير في الانساق؛ تغير في طبيعة التقليد. (مرجعية الميدان) التحرر من الأطر التقليدية. (صلاة الجمعة)  تغيير في الممارسات الشعائرية. (ايقاف زيارة الاربعينية). لقد استحدث النص الديني للشهيد الثاني كينونته الخاصة به، والفقه منطقا خاصا به، مختلفا عن غيره، لا في شواطئ التشريع الانساني بل في جوهره الانساني. لقد بنى تصوره الحركي والمعرفي في ان ينقل المتدين (المقلد) الفاقد للإرادة والاختيار، الى جعله مختارا مريدا في ما يتعلق بما هو اجتماعي، فقد اراد الصدر الثاني ان يجعل من التعبد تفكرا، بان كل ما يحدث يصدر مما هو أبعد من حدود الفقه التقليدي، ان يبحث عن المعنى في المنطق الفقهي. وقد عزز هذا المعنى بجعل العلاقة بين الفقه والأخلاق وطيدة العرى، فقال في كتابه فقه الأخلاق (إن الأخلاق تشمل كل مسائل الفقه وليس بعضها)، فيرتبط السلوك بالتشريع، للوصول الى السلوك الأفضل، لغرض استيعاب الفقه للنشاط الفردي والاجتماعي، وبذلك تتحقق دعوة الصدر التي أطلقها بضرورة تطوير الفقه أفقيا وعموديا ليواكب احتياجات الفرد
 والمجتمع.