«ستالكر».. الدليل إلى عالمٍ لا يوجد إلا في المخيلة

الصفحة الاخيرة 2020/06/29
...

 
د.جواد بشارة
 
 
من البديهي القول ان لتاركوفسكي لغة سينمائية ومفردات إخراجية خاصة ومتميزة جداً لا يجيدها غيره وهو الرائد في ميدان السينما الشعرية، ويحتل فيلم «ستالكر» موقعاً خاصاً في عالم تاركوفسكي السينمائي فقد صممه كادر بعد كادر انطلاقاً من سيناريو لأركادي وبوريس ستروغاتسكي عن رواية لهما وبمشاركة تاركوفسكي نفسه وإشرافه التام على السيناريو. هذا الفيلم يضع المتلقي، الناقد المحترف والمشاهد العادي، أمام تحدي الإدراك والاستيعاب. فكلما شاهدته مرة تلو الأخرى يبدو لك وكأنك تشاهده للمرة الأولى وتكتشف فيه لمسات ومقاربات لم تألفها عيناك من قبل. الأماكن التي تدور فيها أحداث فيلم «ستالكر» لا توجد في أي مكان في العالم الواقعي ولا الخيالي، لا من وجهة النظر السينمائية ولا من خلال السياق السيناريوهاتي الذي من المفترض أن يؤطرها. ويتعين علينا الانتظار طويلاً لنكتشف يوما ما، ربما شيئاً جديداً وقوياً يتعدى ما نراه على الشاشة خلال مدة العرض.
لنتحدث أولاً عما نراه أو نعتقد أننا نراه على الشاشة. ما الذي يوجد أمامنا؟ هناك على سطح الأرض يبرز لنا حيز مكاني فجأة صرنا نطلق عليه تسمية « المنطقة La Zone “ وهي ترجمة غير دقيقة وليس المقصود بها منطقة كأي منطقة كانت في العالم. فهي رديف لحالة نفسية من الخوف والتردد والامتعاض والكآبة والإحباط وضيق النفس. وهي مفبركة من مكونات ومواد غير ثابتة، فالمادة تتغير بنيتها باستمرار لندرة وغموض تجانسها ومظاهرها وسماتها وماهيتها فهي تتعدل برمتها باستمرار، وتغير من طبيعتها وماهيتها الفيزيائية. والسبب أو الذريعة التي تقف وراء ذلك، كما يوحي الفيلم، يمكن اختزالها بجملة هي، ربما بسبب اصطدامها بنيزك فضائي من أعماق الكون، وربما بسبب زوار مجهولين أو بفعل كائنات فضائية متطورة لا نراها جعلتها في حالة تحول دائم لسبب نجهله، والتي تركت هذه “ المنطقة” غير قابلة للاختراق والفهم والإدراك والاستيعاب، ومختلفة عن ما يحيط بها كلياً. نشعر بذلك من خلال معلومة تقول إن مجموعة من الجنود الذين أرسلوا لتطويق وعزل هذه “ المنطقة اختفوا ولم يعودوا ولم يعثر لهم على أثر، وتم هجر المنطقة ومنع أي احد من الاقتراب منها، ووضعت حولها الحراسات. وفي وسطها توجد “ غرفة” غريبة ومثيرة للقلق والخوف رغم ان ما يشاع عنها أنها تحقق لمن يدخلها كل ما يرغب به ويريده كأنها عفريت المصباح السحري لعلي بابا. لكن هل هذه هي قصة “ ستالكر” حقاً؟ . ليس على وجه الدقة. لا توجد هناك قصة، والخيط السردي الوحيد الذي يربط بين الشخصيات الثلاث ويدفع بها إلى الاقتراب من “ المركز” هو شعور أكثر من كونه سردا لحدث حقيقي. الأمر المهم الوحيد هو المكان الكوني الفريد من نوعه وليس له مثيل في أي “ مكان” آخر. فالمكان هو البطل وهو الحدث الدرامي، ومنه، ومن الشخصيات الثلاث تتجلى شعرية وشاعرية المقاربة السينمائية. من الواقع المرئي، ومن محيط العناوين، ومن حواف الفيلم الخام إلى منتصف “المنطقة”، يعمل الفيلم بأكمله كأنه مغامرة، رحلة عبر الحواس، وفهم حساس للذات وللعالم من خلال هذا المكان الخارجي، ومن داخل روح الشخصيات التي تسافر من خلال تلك المنطقة، وعبر أرواحنا نحن المتلقين.
كل فن وبراعة وتقنية وحرفية تراكوفسكي تكمن برمتها عبر هذا الاهتزاز غير الملموس والذي هو، وفي الوقت نفسه، شعور غامض ومحبط يغزو الحواس، وينتشر في الجوانب المرئية وغير المرئية والدقيقة في الإحساس الحسي والجسدي الذي يحصل عليه المتلقي. 
نادرة هي الأفلام التي تعرف كيف تستغل بقدرة واتقان البنية اللحظية والآنية والامتداد والعمق التي تتمتع بها السينما، أي الجغرافية الخلاقة بالذات، التي تسمح، من مجرد لصق لقطتين وربطهما، بخلق فضاء ومكان فريد من نوعه، وأن تؤسس بنية متسقة ومتجانسة، وهذا بالضبط هو ما نجح فيه تاركوفسكي في فيلم “ستالكر”، في كل لقطة من لقطاته، وكل مشهد من مشاهده، على نحو دائم ومستمر وبلا أية ثغرة. يأخذنا تاركوفسكي باسلوبه ويضعنا داخل هذا “ الديكور” البالغ الجمال والافتتان، من خلال معمارية الفيلم وهوية بنيته وهيكلية الحلم ورؤيته الشعرية والحميمية لسينماه الذاتية ما يضع فيلمه هذا في مصاف تحف سينمائية وآثار فيلمية خالدة لعمالقة من مقام المخرج الياباني ميزوغوشي والمخرج الفرنسي آلان رينيه والأميركي أرسون ويلز، والإيطالي فيلليني، والبريطاني، ستانلي كوبريك، على سبيل المثال لا الحصر.
 كل شيء جاذب ويؤخذ بعلته في فيلم “ستالكر”» فهو أكثر من فيلم، إنه شيء ما عن المادة والذاكرة والمخيلة ومادة الذاكرة. اقترب تاركوفسكي بقدر ما يسمح به الظرف والتقنية، إلى أقرب ما يمكن من هذه النقطة الهشة، اذ تغدو الصورة موضوع تمثلها وتجليها كما لو أن سطح العدسة يعمل على لمس سطح الأحلام والأشياء. الجلد المميز، البشرة المتميزة، الوجوه الجريحة، السحنات المتعبة، العشب، الأرض الرطبة، المعادن الصدئة المعلقة في جمود أشكالها، الأحجار المتكسرة، الزجاج، و”خاصة الماء الذي دائماً هو أدنى مني، هناك دائمًا، مياه” ، بمختلف حالاتها ، وفي جميع أساطيرها الباردة والصامتة ، والتي يغفو ستالكر في مستواها وعلى مستوى سطح الأرض حين يستلقي تحت ضوء النهار في ذروة المشهد المصور بلقطة متابعة ترافلنغ من أعلى مكتشفة على بعد بضعة سنتمترات ما يركد في الأعماق ، قطع البورسلين والخزف المصقول لكنها مهشمة، والأوراق المستعملة والمطبوعة المتفككة والمنهارة ، والأحجار والحصى، والأخشاب المنقوعة. كأنه مكب قمامة مدهش وساحر تراكمت فيه كل الصور والذكريات. وفي نهاية لقطة بالأبيض والأسود تبدو يد ستالكر مطوية الأصابع بالكاد طافية فوق سطح الماء حيث تبدو الشخصية في وضع جسدي كمن يختلق الأحلام، تعكس هذا الغياب في الواقع وعن الواقع، في ظل ظروفه، هو بمثابة نوع من انعدام الوزن أو فقدان التوازن، متناسيًا حالات طوارئ ومركبات المادة.