الدَّولة بوصفها آيديولوجيا

آراء 2020/06/29
...

د. محمَّد حسين الرفاعي
 
1
نتساءل عن الدولة بقدر تساؤلنا عن الرمز المجتمعيّ الضابط للفعالية المجتمعيَّة، بعامَّةٍ، وللفعل المجتمعيّ، بخاصَّةٍ. نتساءل عن الدولة فقط حينما نتساءل عن مفهوم الفعل، بوصفه كذلك. كما أن التَّساؤل عن الدولة بوصفها مفهوماً إنَّما هو تساؤلٌ في تواشج بنيويٍّ مع التَّساؤل عن مفهوم الرمز. وحينما نشير إلى ذلك نكون بواسطة التَّساؤل، وماهيَّتِهِ، داخل مفهوم الآيديولوجيا المجتمعيَّة. 
2
لكن، في أيَّة معانٍ يمكن أن نمسك بجذر مفهوم الدولة من جهة كونه جملة أفكار؟ وصيغ فعل؟ وتحديدات مجتمعيَّة؟ يتوفَّر ذلك فقط حينما نضع الدولة بوصفها آيديولوجيا عند مستويات أربعة من التَّساؤل عنها. المستوى الأول يتمثَّل في أنَّها ضربُ التوافق على معنى ضروب التعدُّد والاِختلاف والتنوع المجتمعيَّة. المستوى الثَّاني يتمثَّل في أنَّها تحديدُ ضروب الاِختلاف والتعدُّد والتنوع المجتمعيَّة. المستوى الثَّالث يتضمَّنُ معنى أنَّها تنظيم ضروب التعدُّد والتنوع والاِختلاف المجتمعيَّة ضمن معادلة اِحتكار العنف المشروع، ممارسته أو التهديد بممارسته، كما يذكرنا ماكس فيبر. المستوى الرَّابع يتمثَّل في تجاوز فوضى الأفكار إلى مستوى تنظيمها ضمن التواشج البنيوي بينها وبين التاريخ المجتمعيّ. 
3
إذن، كيف يمكن تلقي النظريَّات التي من شأن مفهوم الدولة، في تعدُّدها، وتنوعها، واِختلافها؟ إنَّه تساؤل الواقع المجتمعيّ. لا تتناسب نظرية واحدة للدولة، والحال هذي، لكل زمان ومكان. لماذا؟ لأنَّ الدولة تنتج عن حكم المجتمع لذاته. أي حكم التاريخ حينما يقول ذاته مجتمعيَّاً. أي ضمن الحركة في الواقع المجتمعيّ، التي من شأنه. إنني حينما أشير إلى ذلك أرفع التَّساؤل عن الدولة إلى مستوى التاريخ. وفي ذلك، ثَمَّةَ ضرب من ضروب تحريك الفهم داخل مفهوم الدولة. 
4
ماذا يتضمَّنُ هذا الفهم؟ إنَّه الوعي بالنقص إزاء العالَميَّة، وفكرة الإنتاج، وفكرة الولوج إلى العالَميَّة. إنَّه الوعي بأن نظرية الدولة التي تسبق ممارستها التاريخَ لهي ضرب من ضروب الوهم النظريّ- الإجرائي من حيثُ أنَّ الدولة واقعٌ، على الرَّغْمِ مِنْ كونها رمزاً، أو لا تكون. 
 5
وفي هذا المستوى تصطدم النظريَّة، مباشرةً بجملة عقبات، هي في مجملها مجتمعيَّة، هي على أقل تقدير أربع: 
العقبة الميتافيزيقية: ترتبط اِرتباطاً مباشراً بذلك الضرب من فهمنا للميتافيزيقا، إنْ كان فلسفياً أو دينياً أو ضرباً من ضروب التوقف عند الماضي. وهكذا، نصبح مباشرةً أمام مفهوم الدولة التي تقوم على ضروب التَّفكير التي تنتمي إلى خارج الواقع المجتمعيّ. 
العقبة الميثولوجية: تتعالق مباشرةً بالمصدر الروحي- الديني للتحديد- والتنظيم، أي تجاوز الفوضى. وبما أنَّه يُختزل المصدر الذي تُبنى عليه النظريَّة بالمصدر الروحي- الديني، نصبح مباشرةً أمام مفهوم الدولة الدينية. 
العقبة التاريخيَّة: تتواشج عميقاً مع الفهم المجتمعيّ لمفهوم التُّراث. وما الذي يُعد تراثاً، وأين يتوقف التُّراث عن فعاليَّته. ومباشرةً نكون أمام الدولة التي تقوم على ضرب بعينه من ضروب فهم التُّراث. الدولة التي تقوم على (اِختزال- التُّراث- في- جزء- منه).
العقبة المجتمعيَّة بعامَّةٍ: تنفتح هذي العقبة على البِنى المجتمعيَّة الثلاث الأساسيَّة. ضمن بِنيَة الثقافة يصطدم الواقع بالنظرية، وضمن بِنيَة السياسة تصطدم مشروعيَّة- وشرعية الواقع بالنظرية، وضمن بِنيَة الاِقتصاد يصطدم الواقع بالواقع المُضاف، أي بإنتاج الواقع.
6
ولكن، حينما نضع الدولة في موقع آيديولوجيا التحديد، نشير مباشرةً إلى تحديد الآيديولوجيا. إنَّه تساؤل التاريخ. وفي عبارة صارمة: إنَّ التاريخَ، من جهة كونه واقعاً قد اِختُزِلَ، هو تراث مجتمعي، لا ينفك عن أن يحضر. الحضور هنا، ليس كشفاً بقدر ما هو ضرب من ضروب الحجب. حجب ذلك الذي يجب ألاَّ يُقال. بَيْدَ أنَّهُ إذا قام التَّساؤل: ما هذا الذي يجب ألاَّ يُقال، وألاَّ يُتفكَّر به، بل فيه، في نظرية الدولة؟ نكون أمام إجابة صارمة هي هذي: إنَّه الآيديولوجيا التي حجبت، وتحجب، وسوف تحجب مفهوم التحديد، وممارسته، وأساليب ممارسته، داخل مفهوم الدولة.
إنَّه علينا أن نستجلي المصادر المعرفيَّة لهذا الحجب قَبلَ أن نتوقف عند التَّساؤل عن محاولات الكشف عنه. تندرج المصادر المعرفيَّة لعمليات الحجب هذه، أي حجب التحديد ضمن القضايا- والإشكالات- والإشكاليَّات الآتية : -I تقع الدولة، ويقع مفهوم الدولة ضمن سياقات تاريخية - واقعيَّة لإنتاج الفهم بها، وصيرورة بناء الفهمِ بها. -II آيديولوجيا الدولة لا تستطيع أن تُقوِّم، ولا يمكن أن تكون غير قوام دولة الآيديولوجيا. -III ضمن البِنى المجتمعيَّة الأساسيَّة الثلاث، تكون آيديولوجيا الدولة مجسَّدةً في وحدة العلاقات بين البِنى المجتمعيَّة، ولا تظهر إلّا بوصفها آيديولوجيا تحديد العلاقة، اِنطلاقاً من المصادر المجتمعيَّة لذلك..