حرب التماثيل

آراء 2020/06/29
...

حسن جوان
 

يؤشّر فعل إزاحة التماثيل ذات المحمول الرمزي العنصري في أنحاء متعددة من العالم تركّزت غالبها في معاقل الدول التي كانت بؤرا للنزعة الاستعمارية العنصرية، يؤشّر غلياناً متراكماً لم يكن وليد فرصته الشعبية بقدر ما وجد تنفيساً مواتياً للحظة الثورة الانتقائية التي تحاول تلك التدافعات المنتفضة ضد تلك الرموز من التعبير عن رفضها الحاسم لابقاء تلك الرموز اللاإنسانية كشواخص وطنية في الساحات العامة تذكّر بحقبة من العبودية والاضطهاد الذي يجب الان الاعتذار عنه بدلاً عن تمجيده.
لقد اعتادت ذاكرتنا على ان ترتبط مشاهد تحطيم اوثان الدكتاتوريات او غيرها من الرموز الممثلة في نصب في الساحات العامة إيذاناً بثورة شعبية عادة ما تتسم بالجذرية في إعادة تشكيل الأنظمة وبناء رموز بديلة أكثر انتماء الى تطلعاتها. لكن ظاهرة التحطيم الرمزي هذه لم تتصف بالشمولية في الدعوة الى تغييرات شاملة تمسّ بنية الأنظمة بمجملها في تلك الحوادث. ويمكن اعتماد فكرة ان هذه التحطيمات ذات محتوى واع استهدف بشكل جوهري فكرة ثقافية ترمز لها تلك الايقونات المنحوتة. في الولايات المتحدة الاميركية: كريستوفر كولومبوس، جيفرسون ديفيس، الجنديين ريب و ابوماتوكس، روبرت ادور لي، جون ماكدونو. وفي بروكسل –بلجيكا : تمثال بولد الثاني، وفي المملكة المتحدة تمثال ادوارد كولستون، وفي نيوزيلاندا ازيح تمثال جون فاين تشارلس هاميلتون، كما تعرض تمثال ديغول في فرنسا لبعض التخريب. كل اسم من هؤلاء يدخر خزيناً فادحاً من تراث تجارة الرقيق او إبادة سكان أصليين او جرائم ذات صلة بتأصيل الإرث العنصري والاستعماري المرتبط بحقب دموية سابقة شكلت جزءاً من تاريخ وثقافة تلك الدول. ويحظى القسم الأكبر من هؤلاء بنصيب مباشر باضطهاد الشعوب الافريقية وترسيخ فكرة التمييز ضد ذوي البشرة السمراء حتى بعد تحررهم ونيلهم حقوق المواطنة في تلك الدول بعد مضي قرون. لكن استمرار هذه الثقافة العنصرية المتوارثة التي تتجلى في حوادث مماثلة لمقتل فلويد على يد شرطي اميركي رغم استغاثة الضحية مراراً، تتجلى غير مرة لتعيد الى ذاكرة جمعية تنتمي اليها فئة واسعة من مواطني تلك الدول ومن يتعاطف معهم حقباً مظلمة بائدة لكنها كامنة بشكل مخيف في رواسب ثقافية ما زالت تعمل وتظهر بين حين وآخر. من هنا كانت ردة الفعل العالمية على تلك الرموز النحتية التي لم تعد رموزا مشرّفة ولا مشرقة لتمثل وعيا جماعيا يعني هذه الشعوب المتصالحة انسانياً. المعاول التي توجهت الى أعناق تلك التماثيل إنما كانت تهوي على أعناق المفاهيم الثقافية المجحفة المخجلة لانسانية شعوب بأكملها. أكثر من نصف المسهمين في إزاحة تلك الرموز وإعلاء شعارات تناهض العنصرية وتدعو الى محو ثقافة التمييز على أساس العرق واللون كانت من ذوي أصول اوربية او غير افريقية الأصل. هذا التضامن المتماسك هو أبلغ وأكثر تطميناً بمستقبل الوعي الشعبي المتصالح مع قيمه في أنحاء الأرض.