جواد علي كسّار
تعود صلتي الفكرية بكتابات المفكر الأميركي نعوم تشومسكي (معاصر، ولد: 1928م) إلى نظريته عن اللغة المشهورة، بعنوان: «نظرية النحو التحويلي». فقد كنت برهة من الزمان مشغولاً بالنظريات اللسانية، وقد أعجبني التفسير الذي قدّمه تشومسكي للغة على أنها بُنية وجودية متأصّلة في ذات الإنسان وتكوينه وجبلته؛ يولد وفيه قابليات لغوية غير مكتسبة، هي الذخيرة التي يطوّر على أساسها مهاراته اللغوية.
ثمّ تطوّرت هذه الصلة نموّاً واتساعاً، وتحوّلتُ من اللسانيات إلى كتاباته السياسية بوصفه أبرز ناقد للسياسة الأميركية، يتّسم نقده اللاذع غالباً بالشمول والجذرية، حتى ذاع صيته أميركياً وعالمياً في نقد السياسات الأميركية داخلياً وخارجياً، منذ لحظة فيتنام حتى الآن.
ما زلتُ أذكر ورطتي مع أول كتاب نقدي حصلتُ عليه لتشومسكي عن أميركا والديمقراطية، إذ لم يكن الكتاب قد تُرجم للغة العربية بعد، فامتلكتني الحيرة وأنا أكتب مقالاً عنه، بين أن أترجم عنوانه إلى «ردع الديمقراطية» أو «الديمقراطية الرادعة» فما كان مني إلا أن أثبت العنوانين، تخلصاً من المشكلة!
حصل هذا قبل عقدين أو ثلاثة عقود من الآن، أما اليوم فقد بات التعامل مع أفكار تشومسكي ورؤاه الجذرية الناقدة، سهلاً إلى حدّ كبير لا يحتاج إلا صبراً على أسلوبه المركب وجمله الطويلة، ومثابرة على متابعة أفكاره الغزيرة المتداخلة؛ وذلك بعد أن تُرجم له أكثر من عشرين كتاباً، منها «إعاقة الديمقراطية»، «السيطرة على الإعلام»، «العالم إلى أين»، «العقل ضد السلطة»، «النظام العالمي القديم والجديد»، «ثقافة الإرهاب»، «الهيمنة أم البقاء»، «طموحات إمبريالية» وغيرها.
رؤيتي السابقة لكتابات تشومسكي وآرائه التفصيلية الناقدة لسياسات بلده، أنه «متعافٍ» يمثّل حالة ترفية في حياة باذخة، تماماً كمن يدخل عمارة رائعة متكاملة في الهندسة والتصميم والمادّة والتشييد، فيسجّل عليها بعض الملاحظات الشكلية. فأميركا تمثل قمة الليبرالية في العالم باقتصاد متقدّم، وناتج إجمالي يزيد على «20» ألف مليار دولار سنوياً، وقوّة عسكرية وثقافية كاسحة، فماذا يريد تشومسكي المواطن وحتى المفكر أكثر من ذلك؟
لكن هذا التصوّر تبدّد بفعل متابعة الواقع الأميركي عبر قنوات تواصل متعدّدة، ما كانت الاحتجاجات الأخيرة التي تفجّرت شرارتها بعد مقتل جورج فلويد إلا حلقة من حلقاتها. والحصيلة البديلة أن لأميركا أزماتها العميقة والسطحية، العارضة والدائمة، التأسيسية والمكتسبة، في السياسة والاقتصاد، والأهمّ من ذلك في الإنسان والمجتمع والثقافة، حالها حال أي بلد آخر في العالم. وهذا بالضبط ما كان يتحدّث عنه تشومسكي ولا يزال.
من مكتشفاتي على هذا الخطّ أن تشومسكي هو حلقة في سلسلة، وفرد في تيار نقدي عريض، وإن كان لا يزال صوته الأرفع وركائز مشروعه النقدي هي الأقوى، يتحدّث بلغة صريحة ويقترب من مناطق لا يجرؤ على الكلام فيها كثيرون، خاصة انه محصّن بحصانة مزدوجة، تجتمع فيها المهنية الأكاديمية إلى الانتماء اليهودي.
من البارزين في تيار النقد الجذري الكلي اريك هوبسباوم صاحب كتاب: «على الإمبراطورية: أميركا، الحرب والتفوّق العالمي»، وكذلك ديفيد هروي صاحب كتاب: «لغز رأس المال: أزمة الرأسمالية»، وكذلك نعوم كلين صاحب كتاب: «مبدأ الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث»، وعمانوئيل والرستين صاحب كتاب: «حرب الضرورة، حرب الاختيار: مذكرات حربين في العراق»، وقد نُصدم ونحن نقرأ في عداد تيار النقد الجذري الذي تنتشر كتاباته في أميركا على نطاق واسع اسم المفكر العربي الراحل سمير أمين، خاصة كتابه: «التنمية: تشريح الفشل العالمي» كذلك: «امبراطورية الفوضى".
أعتقد أن هذا التيار يقع ثالثاً بين تياري الدولة العميقة، واليمين المتطرّف، تمثل متابعة رموزه وأفكاره ضرورة لا مناص منها لفهم أميركا من الداخل!