بشير حاجم
بديهي أن "القراءة"، بصرف النظر عن تعدد نظرياتها، من أهم الفعاليات المتحققة بالتناول النقدي للعمل الإبداعي. لكنها في النقد الثقافي، هنا الآن، غيرها في النقد الأدبي. فهي في أولهما = ثقافيا، دونها في ثانيهما = أدبيا، ذات مقاربات سياقية، لا مداخلات نصية، أخطرها اثنتان أساسيتان رئيستان.
ثمة مقاربة "سيكولوجية"، خصوصية، مدخلها ذاتي، كونها فردية، حيث
الـ "أناويّة" الإبنيّة. وثمة مقاربة "أيديولوجية"، عمومية، مدخلها موضوعي، كونها جمعية، حيث الـ "نحْنُويّة" الأبويّة. أيْ، من ثمّ، أن المقاربة الأولى "مجتمعيّة" بصفتها "عُقَديّة" (من "العقدة") لكن المقاربة الثانية "مثقّفيّة" بصفتها "عَقَديّة" (من "العقيدة"). ما يستوجب، إذاً، أن تؤطَّر هاتان المقاربتان بمقاربة أخرى، أساسية رئيسة أيضا، هي المقاربة الـ سوسيو ثقافية.
أبرز ما في مقاربة كهذه، سوسيو ثقافية، ثمة منظورها الـ سوسيو ثقافي. ذلك، تعليلا، لأنه يبحث في ممارساتنا المجتمعية المثقّفيّة. إنها تلكم المتمثلة في تصورات قيَميّة، عديدة، تضمن أيّ فضاء حواري ممكن في ما بين الفرد الاجتماعي والجمع الثقافي. مع التنويه، ضروريا لا كماليا، بأن هذه الممارسات، على وفق تمثّلها هذا، تتباين في ما بينها، ضعفا و/ أو/ ثم قوة، من حيث ناشطية كل واحدة منها. لكنّ المؤكد أنّ أنْشطَها، لاسيما على مستوى تصوّراتها القيمية: التعاقدية / التعالقية، تلك المنتسبة للحقل الأدبي. إذ أن قوامها، العملي، هو النشاط الفارق لمجمل الأحكام أو القوانين المكوّنة للفن والعلم.
لأنها ذات قوام فني علمي، عمليا، ولأن هذا القوام ذو أدبية اجتماعية ثقافية، انتسابيا، تدخل هذه الممارسة الأخيرة ضمن سوسيولوجيا الثقافة. ليس من أية ريبة في أن اتساع المجال الـ سوسيو ثقافي، منهجيا/ مصطلحيا/ مفهوميا، يملي خيارا مبدئيا غير تفصيلي. إنه تحديد إطار نظري عام، لا خاص، قبالة علاقةٍ ما للظواهر الثقافية بالمعطيات الاجتماعية. لكنّ تحديدا كهذا، على الرغم من ذلك، ملزَم بتعريف معيّن لـ سوسيولوجية الثقافة. حتى لو أن طريقا واحدا نحو هذا الإلزام، هنا، قد يؤدي إلى مفترقين اثنين لا ثالث لهما. الأول: تناول العلاقة بين البنيتين التحتية والفوقية، كلتيهما، بعدّها مستهلّا تنظيريا، يسبق متنا تطبيقيا، عبر إفراد مكانة خصوصية للفئات المثقفة الرابطة عضويا بينهما. الثاني: غض الطرف عن أنماط الإنتاج الفكري وأَشكال علاقة كهذه، قائمة بين بنيتين متنائيتين، لأن التوفيق بينها، أي: الأنماط / الأشكال، يتطلب عرضاً تصنيفيا عسيرا. هكذا يعنيان توقّفا عندهما، تامّا، ثم عودةً للاهتمام بالثقافة النخبوية، دون نظيرتها الشعبوية، لكن بلا فصل بين القطاعات المختلفة للثقافة.
هذه العودة، غير الفاصلة، تستدعي أشهر المقابلات استخداما بالثقافة للحضارة. إنها مقابلة ماكس فيبر، صاحب سوسيولوجية الثقافة، حتما. حيث "الثقافة"، أولا، جملة من الروحيات والمشاعر والمثل المشتركة المرتبطة بزمن ومجموعة معيّنين. وحيث "الحضارة"، ثانيا، جملة المعارف المعترف إنسانيا بصلاحيتها وإمكانية نقلها. هكذا الآن، بهذين الحيثيْن المعتبرين، ثمة ما في هذه المقابلة أخطرُها: عزل المعرفة عن الواقع. فبهذا العزل، هنا، يحصل استقلال بعالَم أرقى خاص بنخبة ذات تصورات قيَميّة عليا مؤدّية وظيفتين متلازمتين: الإيهامِ بحاجة الإنسان لهذه النخبة، أولاهما، والدفاعِ عن طبيعتها المتميزة، التي لا قدرة على التمكن منها سوى بجهد فكري استثنائي حدّ التهميش والعداء، ثانيتهما. ينتج عنهما انجذابُ أصناف اجتماعية إلى هذا العالم الأرقى الخاص، ذي التصورات القيَميّة العليا، انجذاباً يظل معه بعضُها في مستوى التوق المكبوت.
أي أنّ هذا الانجذاب، الذي نتج عن أخطر ما فيها، لم يتأتَّ لولا المقابلة الفيبرية بين الثقافة والحضارة. لذلك ستكون دافعا أهمّ، وإنْ ضمنيا، لأن يحرر كلود ليفي شتراوس "الأنثربولوجيا"، علمه الأول، من أعتى القيود: محاولات الربط بين الثقافة والطبيعة البشرية. إذ نفى وجودَ إنسان طبيعي، بالمرة، فلا ثقافة عنده إلا بعد تجاوز الطبيعة عبر المرور منها إلى الثقافة بوسائل متنوعة كثيرة: أبرزها اعتناق مبدأ تحريم الزواج بذي القربى.. حيث "القرابة"، مثلا، لا تكتسب طابعَها كظاهرة اجتماعية بفضل ما هو موجب لها المحافظة عليه من الطبيعة.. بل بفضل السيرورة الأساسية، الجذرية، التي تنفصل بها عن أية طبيعة. وأوضح مثال بنيوي للمرور هذا، من الطبيعة إلى الثقافة، ثمة المثلث الطبخي الشتراوسي: انتقال النيّئ، فيه، إما ثقافيا إلى مطبوخ، من جهة، وإما طبيعيا إلى متعفن، من أخرى، بحيث تمثل عملية الطبخ نشاطاً وسطيا بين الطبيعي والثقافي.
من هنا، إذاً، بعد مثلث طبخي شتراوسي كهذا، حيث مرورنا من الطبيعة إلى الثقافة، يغدو مفروغا منه عند إدغار موران، خصوصا، نفيُه هذا: ليس الإنسان مكوَّنا من شقين متراكبين (أحدهما "بيو طبيعي" و آخرهما "بسيكو اجتماعي")، لا، بل أن أي إنسان هو كلية بيولوجية بسيكولوجية سوسيولوجية. لكنّ نفياً كهذا عن الإنسان، لاسيما أنه معطوف بتأكيد لـ "أي إنسان"، لا ينفي وجودَ تمايز بين أنثربولوجيته الحياتية وسوسيولوجيته الثقافية. إذ الأُولى، عضوية و نفسية، اعتيادية قبالة: بدائيته/ فرديته/ ذاتيته/ أناويّته. أما الثانية، عقلية أو روحية، فاستثنائية قبالة: حضاريته/ جمعيته/ موضوعيته/ نحنويّته. لذا يجدر، بالانحراف، تغليب سوسيولوجية الثقافة على أنثربولوجية الحياة للإنسان. وإذا تم هذا التغليب لـ "أي إنسان" اعتيادي، استحبابا، فإنّ إتمامَه
لـ "أي إنسان" استثنائي، وجوبا، سيكون أوْلى.