حسين الذكر
كعادتي كل صباح تقريبا أتناول إفطاري في سوق منطقتي الشعبية الزاخرة بمناظر الجمال الاجتماعي بدلالته البسيطة وتلقائيته المحببة برغم تشبعه بالأسى والقهر في أغلب تصاويره الملتقطة هنا وهناك، ومن نماذج شتى لا تشيح وجهها عنك حتى تلفحك بنار مخبوءة منذ سنوات بل عقود، وربما قرون ناخرة جسد الأمة عبر ذات الأدوات التي تهلك الإنسان وتشيع الفساد وتهدم المؤسسات، لم تلامس أول لقمة جدار البلعوم حتى استوقفني مشهد صعّب مهمة الاستمراء عندي، إذ إنَّ امرأة ضعيفة البدن كبيرة السن خارطية الشكل معصوفة الأحوال رثة الثياب مجلجلة المنظر، ما إنْ عبرت بجادة السوق حتى جثت بحثا عن شيء ما في الأزبال والانقاض ومخلفات اليوم السابق، لم أكمل لقمتي المستعصية حتى ذهبت أسالها عما تبحث فبكت ودعت قبل الإجابة، فأعطيتها بعض تفاليس من جيبي الخاوي لعلها تغادر المكان وتشتري خبزاً او أي شيء آخر يسد رمقها، وربما هناك أفواهٌ فاغرة تنتظرها، عدت الى اللقمة الثانية حتى صبح علي بالخير جارنا الذي عرفته وأهله من سنوات طويلة كانوا فيها من الناس البسطاء خيري الانتماء والفعل لم أره لوقت طويل عرفت أنه تطوع بسلك الشرطة منذ عقود فعزمته على قدح شاي سفري في ظل جائحة كورونا التي حرمتنا من أبسط مقوماتنا الاجتماعية المعتادة، جلس قبالتي وقد هدّت الأيام حيله وبدّلت شكله، فسألته أين صفى بك الدهر؟، تلك المقولة العراقية الشهيرة التي تعبّر عن حالهم وربما اخوان محنتهم من العرب وهم يصارعون مشاق يومهم ومتاعب زمانهم في ظل طوابير أجندات لا تنتهي فقال: (امشي بمعاملة التقاعد بعد 45 سنة خدمة في سلك الشرطة من دون أي عقوبة او مؤاخذة تسجل طوال خدمتي لم تتح لي شراء بيت أسكن به عيالي، إذ ما زلت مستأجرا عند ملاك رؤوس الأموال، إذ لم تستطع الثورات والتبدلات إزاحة سلطانهم عن صدورنا بعد أنْ ترسخ مفهوم "نفس الطاس والحمام" قائماً بلا أدنى تغيير، علما أن راتبي التقاعدي لن يتعدى الستمئة ألف دينار بأحسن الأحوال..)، بينما ارتشفت الشاي أصبّر نفسي على مشاهد مأساة الأمة تذكّرت الرئيس الذي خدم ستة أشهر فقط وما زال منذ سبعة عشر عاما يتسلّم مئات الملايين سنويا.. بما يعادل رواتب آلاف الموظفين الذين ظلوا بلا سكن ولا مستقبل بعد كل سنوات خدمتهم الطويلة الشريفة المغمّسة بالحرب والحصار والتهجير والقتل والمقابر الجماعية والزنزانات والطائفية والتهديد والوعيد وأنواع ضيم العراق القديم والجديد.. ما إن أكملت تسجيل بعض ملاحظات جارنا الشرطي النزيه.. حتى سمعت شخصا بدا منهك القوى حدّ المس العقلي لمن لا يهضم منظره وشكله وملبسه وطريقة كلامه.. لدرجة انزعج منه الآخرون جراء قسوة نقده للحكومات المتعاقبة.. فسألته عما فيه فقال: (أنا معوق بانفجار سابق لم أحصل من تبعاته على شيء وعمري تعدى الستين عاما، قضيت أغلبها في خدمة عسكرية وحروب طويلة... ولدي أخوان أعدما أيام ضيم الثمانينات.. فمنحت راتب رعاية اجتماعية مئة وخمسين ألف دينار فقط.. وبعد اللتي واللتيا أكملت معاملة أخوي الشهيدين الذين قسّمت رواتبهم على الورثة، فوقعت لي مئة ألف دينار شهريا حصة مقررة وفقا لقانون المؤسسة.. لكني فوجئت بقطع راتب الرعاية تحت حجة لا يجوز أن اتسلّم راتبين.. وفقا للإصلاحات المالية الجديدة التي لجأت لها الحكومة على إثر تداعيات كورونا التي على ما يبدو لا يختلف ضحاياها عن ضحايا الحروب والفساد والسلطات السابقة.... دكتاتورية كانت ام ديمقراطية.