أمين قمورية
يحتفل اللبنانيون الشهر المقبل بالذكرى المئوية الأولى لتأسيس دولة لبنان الكبير، لكن أنين الناس من ألم الفقر والفاقة والاذلال يجعل الاحتفال جنائزيا، والموسيقى المصاحبة له على أنغام مناكفات السياسيين ونعيق الخبراء والمحللين، هي أشبه بنوبة دفن الموتى.
كل الكلام عن الخطط الحكومية للإنقاذ تعلن وفاة هذه الجمهورية بدلا من إنقاذها. لبنان اليوم أشبه بطائرة في الجو تعطلت محركاتها، فيما تتقاذفها العواصف الإقليمية والمطبات الجوية للصراعات الكبرى على المنطقة. وبينما الركاب يعتريهم الخوف والقلق من المصير المشؤوم الذي ينتظرهم، فإن طقم القيادة والربان يقف حائرا متخبطا، يجرب ويخطئ، ذلك أنها المرة الأولى التي يقود فيها طائرة. ومع كل خطأ جديد يزيد الأضرار ويتسع الخطر ويصير الارتطام أمرا حتميا. أما الأمل الأخير فيبقى التخفيف من حدته قدر المستطاع حتى لا يكون كارثيا.
في الأصل، كل المنظومة السياسية والمالية التي أدارت البلاد منذ أربعين عاما ونيف، تعرف حجم العلل والمصائب التي تعاني منها الطائرة وتدرك أن الطيار لا شأن له بالقيادة في ظل هذه الأنواء. لكنها أصرت على اختيار مجهولين في عالم السياسة لتولي المهمة المستحيلة، إنها حكومة موظفين او مستشارين لايعرفون شيئا عن عمل الدولة، لا يحترمون قراراتهم، يبدلونها كما يبدلون ملابسهم. يتلقون الأوامر من أحزاب السلطة التي تريد من هذه الحكومة أمرين: التحايل على الجمهور المنتفض بأنها لبت مطلب انتفاضته الشعبية بحكومة تكنوقراط، لكن لا لون ولا طعم لها ولا استقلالية قرار، وترفع عن نفسها مسؤولية الانهيار الكبير الذي تسببت به على أمل العودة للإنقاذ في ظروف أفضل.
منذ تأسيس الكيان لم يعرف لبنان ولا اللبنانيون ماهو أسوأ من الوضع الراهن، لا في الحربين العالميتين، ولا بعد النكبة ولا في الحروب الأهلية بين اللبنانيين، ولا في حروب الآخرين على الأرض اللبنانية وما رافقها من احتلالات وغزوات. ما يجري ليس مجرد أزمة مالية او اقتصادية او معيشية او سياسية، هو أزمة بنيوية شاملة يتداخل فيها الداخلي مع الخارجي ويتشبكان ليشكلا متاهة من التعقيد والخطورة لامثيل لها. مليارات الدولارات التي أودعها الناس في المصارف كجنى العمر في المغتربات او معاشات التقاعد او الادخارات، طارت ولا أحد يعرف أين غطت، طوابير العاطلين عن العمل ازدادت حتى تجاوزت نصف القوى العاملة، المؤسسات تقفل أبوابها الواحدة تلو الأخرى، أسعار المواد الغذائية باتت خيالية مقارنة بالأجور، الحد الأدنى بات يعادل الخمسين دولارا شهريا. كل الرخاء والرفاه والمتع التي ظن اللبنانيون أنها أبدية تبخّرت في أيام قليلة، وتساوى الغني والفقير في اليأس والإحباط والخيبة والانتظار على أبواب المصارف والمتاجر في بلد الاقتصاد الحر والسرية المصرفية، والمتباهي غرورا بأنه سويسرا
الشرق.
السلطة الفعلية الممسكة بزمام الأمور تواصل مناوراتها كي توهم الناس أنها تفعل شيئا لإدارة الأزمة، لكنها كلما خطت خطوة انتجت أزمة جديدة، تنتقل من قطاع لآخر لإنتاج أزمة فيه حتى صارت ولّادة أزمات وليس في جعبتها حلول لشيء. في لبنان كل قطاع اقتصادي أزمة، والأزمات في كل مكان وتشمل كل الناس ما عدا القلة القليلة، والتي تملك من المال ما يمنحها حرية التصرّف. مع هؤلاء سيعود المال المنهوب، لكن ليس لأصحابه، بل لتجديد حياة الطبقة السياسية والمالية المتحالفة معها ولتوسيع حصتها من الاقتصاد عبر شراء أملاك الناس بأسعار رخيصة، وشراء أملاك الدولة والأملاك العامة بالمجان، وشراء البلد بعد السيطرة عليه. ليست المواجهة بين فريق السلطة والفريق الآخر: المواجهة الفعلية بين كل هؤلاء وكل الناس.
السلطة نفسها تحاول الهروب من أصل الأزمة، عبر افتعال ساحة أزمة أخرى يعتقدون أنه بمقدورهم أن يلعبوا فيها ببراعة. وهي ساحة تحويل الأزمات ذات العناوين التفصيلية الخاصة إلى كونها مواد صراعات مرتبطة بتوازنات خارجية عامة. بهذه الطريقة وحدها يستطيع الواحد منهم أن يسجل انتصاراً على الآخر، وأن يؤجج عنصر الانقسام بين اللبنانيين، لتغدو مشكلة الخوف من الاقتتال –أي الأمن- أقوى من أية مشكلة أخرى، كتحسين الوضع الاقتصادي والحؤول دون الانهيار التام. وبهذه الطريقة يجري إلهاء المواطن عن واقعه. والإلهاء قد يكون أفضل وسيلة لتجهيل الناس عن واقعهم وما هم مقبلون عليه، وتحويل جل همهم ألا يجوعوا وألا يفرط البلد بين أيديهم، أي معادلة الأمن مقابل الطعام!
ومع إصرار الحكومة والأحزاب والتكتلات الداعمة لها على رفض الإصلاحات الضرورية المطلوبة محليا ودوليا يصير الانهيار واقعا لامفر منه، وما يزيد من تطلع اللبنانيين الى خارجٍ يخلصهم من "مافيا" الحكم. علما أن معاناتنا هي دائما في استغاثتنا بالخارج لنهزم خصومنا في الداخل. لكن لماذا نتهرّب من تحمل مسؤولياتنا؟ هل مشاكلنا الداخلية المستمرة دائما هي مسؤولية الخارج؟ هل صحيح أن الثورات والحروب والأحداث التي وقعت في لبنان هي دائما من صنع الآخرين على أرضنا؟
إن معظم اللبنانيين ينشدون ويتمنون دولة مركزية واحدة تدير شؤونهم وأمنهم واستقرارهم وحياتهم وأعمالهم، وبعضنا يتفهم ويتسامح مع وجود مقاومة عسكرية تتعاطى بشؤون اقليمية، على قاعدة أن وجود المقاومة ليس مفروضا على اللبنانيين، إنما هو بمحض موافقتهم وتسامحهم، لكن عندما تصير المقاومة غطاءً للفساد والهدر تصبح شكلا من أشكال الميليشيات غير المقبولة.
وعلى رغم من قتامة الصورة يبقى الأمل موجودا، عبر إقامة دولة مدنية برؤية شاملة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تكون بدايته تنفيذ الإصلاحات القادرة على انعاش الاقتصاد واستقلالية القضاء، وإبعاد شبح التدخل الخارجي، عربياً كان أم غربياً أم إسلامياً (تركياً وإيرانياً).
هل هذا ممكن؟
لا مفر من البحث عن صيغة جديدة، لكن كان من الأجدى أن يفعلها اللبنانيون "على البارد" بدل انتظار خارج لا يقيم وزناً للبنان حالياً، والخشية أن يصل الترياق متأخرا بعد فوات الأوان وخراب البصرة.