التباعد الاجتماعي وساديَّة الفيروس

آراء 2020/07/25
...

علي لفتة سعيد
 

لا يبدو الصراع متكافئًا بين عالمين مختلفين أو زمنين متعارضين صارا في الخارطة الزمنية التعاقبية تاريخًا مهما، لن يكون غائبًا عن وعلى البحث والتدوين والتقصي والاعتماد كنقطةٍ دالة على الأحداث ما قبل وما بعد.. مثل أحداث العالم المختلفة التي مرّت على البشرية على الكرة الأرضية كأحداث الأوبئة الأخرى أو الحروب،
 وما حصل في عالمنا الحديث من أحداث مثل ثورة العشرين والحربين العالميتين الأولى والثانية وقبلها ثورة العشرين وما حصل في عام 58 وكذلك نكسة حزيران وفي العراق من تاريخ سيبقى شاهدا على المتغيرات بين زمنين متعارضين وهي أحداث عام 2003.
إن جائحة كورونا سيكون ذكرا خالدا في التاريخ، بمعنى أنها لن تكون مجرّد وباءٍ اكتسح الكرة الأرضية وأثّر في البشرية كوجودٍ إنساني وحاربهم في لقمة العيش والتنقّل والسفر وحتى المكوث اليومي في المكان ذاته، بل حتى في طريقة العيش، فضلا عما رافق الفيروس من روحانيات وتذبذبات غير عقلانية أو حالة من عدم التصديق لما حصل، فكان اللجوء الى الروحانيات هدفًا من أهداف الراحة النفسية، من أجل الاستمرار بالعيش عن طريق الضدية والبحث عن مكامن الدفاع عن هذه القناعة، سواء كانت هذه مرتبطة بالواقع الاجتماعي المتحوّر الى واقعين اقتصادي عوزي وحاجة، أو ديني مستغل، وفي كلّ الأحوال هي عملية مصارعة أو تحدٍ أو ضدية لما يجري في العالم.. وعدم الرغبة بالتصديق ليس لغياب الايمان الكلي بوجود الفيروس بل الحاجة الى الوقوف بوجه كلّ ما يمكن أن يسلب الحرية.
إن هذه العلامات أو الدوال على الإشارات المضادة لفعل الجائحة السادي إن صحّ التعبير، فهو أي الفيروس لا يختلف عن أيّ فعل سادي آخر يستهدف البشرية بقوة تدميرية هائلة؛ ولذا فإن ما ظهر من مضادات أخرى أو متعاكسات في المصطلحات وغياب الثبات العلمي لوصف الدال على تحديد فاعلية الفيروس، فضلا عن تراجع القيمة العلمية للكثير من علماء العالم في ملاحقة ولادة الفيروس منذ البدء، فضلا عن أنه حصل وانتشر في زمنٍ موبوء بالمؤامرات السياسية والتحركات العالمية والصراعات الاقتصادية بين القوى العالمية، فضلا عن التحوّل المجتمعي في الكثير من الدول بما فيها الدول العربية من واقعٍ سياسي طاغ، الى واقعٍ ديني قائد، وما يمكن أن يحمله هذا التحوّل من ولادة بنات أفكارٍ جديدة، غير تلك التي كانت مهيمنة على الواقع منذ أربعينيات القرن الماضي مثلا، حين كان الفعل العسكرياتي هو المهيمن على السلطة والماسك لقبضتها، فهي جميعها وغيرها هيمنت على عدم الإيمان الكلي بوجود الفيروس وتأثيره السادي على الفرد الواحد، ومن ثم انتقاله عن طريق اللمس أو ما يمكن أن نطلق عليه (الحث الجسدي) الذي يشبه المغناطيسي في الانتشار..
إن التأثير الآخر الذي يمكن وصفه، ما تم طرحه من توصيفات ومصطلحات أثّرت بشكلٍ كبيرٍ على القناعة التامة بحتمية النهاية، وهي قد جاءت بفعلٍ سياسي متسارع، فوّلد ردّة فعلٍ أيضا متسارعة بقوة، بعدم الخنوع والخضوع له، ومنها ما اصطلح عليه بالتباعد الاجتماعي الذي لم تتعوّده البشرية من قبل، حتى في المجتمعات التي يقال عنها مجتمعات هادئة يحكمها المال والحياة اليومية، وهو ما كان يؤخذ على المجتمع الصيني مثلا، وهو الذي انطلق من أراضيه الفيروس.
 إن مصطلح التباعد الاجتماعي أثر بشكلٍ كبير على القبول بمعاندة ومواجهة الفيروس وهو سبب وأسّ المشكلة بعد تلك العلامات التي ذكرناها سابقا، ليشكّل هذا المصطلح عنوان التشكي والقبول بالغيبيات، سواء ما كانت منها دينية أو قبلية أو عادات اجتماعية قارّة، ليكون العامل الاقتصادي لدى الكثير من الفقراء سببًا آخر في مواجهة المصطلح، على أنه غير ذي أهمية، أو القبول به على أنه شيء حتمي آتٍ من السماء وتريده السماء وهو بفعل السماء ولا راد لما تقرّره السماء.
إن هذا المصطلح لم يجد من يفتته ويفككه على أنه جاء ليكون هدفًا لتقارب حياتي مقبل وليس للافتراق الدائم، وأنه الطريق الأوحد للنجاة، وأنه لا يخضع للجانب السياسي ولا للصراعات والمناكفات السياسية، ولا يمكن ربط الأشياء الأخرى بها مثل غياب الفعل الحكومي أو عجز القدرات العلمية القادرة على تثبيت صحة المصطلح على أنه الواجهة الأمامية لمواجهة الفعل السادي للفيروس، ومن ثم صارت مقولة (العالم يكذبون علينا.. وما كو فيروس.. وهو مؤامرة الدول الكبرى) بل اللجوء الى القسم أحيانا على تثبيت صحة هذه الأقوال، وإن توزّعت وتعدّدت أنواع المؤامرات منذ أن انطلق فعل الفيروس بالانتشار في العالم، حتى بات أيّ جزء من الكرة الأرضية غير قادرٍ على أن يكون بمنأى عن وجوده المخيف.
إن هذا المصطلح كان أكثر ضررًا على مجتمعاتنا التي لا تؤمن بأغلبيتها بما حصل بالكامل، فضلًا عن عدم إيمانها بما حصل بسبب الغيبيات وغيرها، فكان لا بد من إيجاد مصطلح آخر أكثر قدرة على التعبير الحقيقي في توصيف ما حصل وما هو مطلوب من الفرد كأن يكون (الالتزام الصحي لمواجهة الفيروس).
إن الوعي الثقافي هو الوحيد الذي يتحرّك على الساحة العالمية في الوقت الراهن، وحتى قبل الرياضة وكرة القدم بالذات، لأن المجال الافتراضي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، صار هو المحرك الأساس في توضيح الحقيقة السادية للفيروس، سواء كان الفعل الثقافي المراد منه نشر الوعي الصحي عن طريق المؤسّسات الثقافية وفاعلياتها، أو عن طريق الأفراد في فعلهم الاجتماعي عبر تأسيس منظمات مجتمع مدني للمساعدة والمعالجة، ومن ثم ضخّ الكمية المطلوبة من الوعي لتفتيت المصطلح.
إن الفعل الثقافي هو الفعل الثوري والقوة القادرة على معاونة الفرد المهموم لكي يكون فاعلًا في المجتمع.. وبدلًا من تحوّل العالم الافتراضي الى عالمٍ قاتل وقاتمٍ بدرجةٍ كبيرة، تحول في جزء كبير منه بفعل الثقافة الى عالمٍ من الوعي الصحي وقد أسهم بشكلٍ فعّال بتقليل نسبة التعصّب في العقل، لأن لا سبيل غير هذه النافذة ليطلّ عليها ويجد الفعاليات الثقافية أمامه، وهو ما رأيناه في تراجع نسبة التعصّب الفكري المضاد بشكلٍ ملحوظ عبر الالتزام بما يخرج للعلن من تعليمات، كون هذا العالم لم يزل يستخدم من قبل المغرضين، لكن الواقع العام في التحرّك لتطبيق التعصّب تراجعت خطواته بنسب 
كبيرة.