كثافة الجملة النقديَّة

ثقافة 2020/07/28
...

د. فيصل القصيري
 
يقدم الناقد محمد صابر عبيد في كتابه الجديد (البقعُ الشعريّةُ الأرجوانيّة) الصادر حديثاً عن دار (خطوط وظلال) الأردنية الطليعية، وهو يقارب جمالياً ديوان: (لا حرب في طروادة، كلمات هوميروس الأخيرة) للشاعر نوري الجراح، لغة نقدية شديدة الكثافة والحيوية والتماسك، وتحاول هذه الجملة أن تتداخل مع الجملة الشعرية بقوة وتتحايث معها وتستبطنها وتشتبك معها في أسلوبيّة بالغة التحريض والعناد
وتحرّكت على خريطة الكتاب بآليّات قاصدة وعارفة تشتغل لحسابها بقدر ما تشتغل للكتاب الشعريّ في ثنائية فاتنة، تجعل القارئ يوغل في الخطابين النقدي والشعريّ بأقصى ما لديه من قدرة على التجاوب والتلقّي والتفاعل والاستجابة توزّعت خريطة الكتاب النقدية بين مجموعة واحات قرائية شغوفة
بالحفر والاستقصاء الجيو لغويّ في أرض النصوص المبهرة لنوري الجراح، وتبدأ بـ (شاعرُ قصيدة النثر: تجربةُ قصّ الأثر) و (مدخل في الرؤية الشعريّة) و (البقعة الأرجوانيّة العنوانيّة) و (بقعة التقديم الأرجوانيّة)، إذ يقدّم رؤية نقدية جديدة في القراءة النقدية القائمة على أساس التوجّه نحو البؤر الشعريّة التي تكتنز بالكنز الشعري، بوصفها مركز البثّ الشعريّ في واحة شعرية محددة داخل القصيدة، ومن ثم يجمع هذه البؤر تحت عنوانات مثل (الاندفاعة الأولى: أسطرة التجربة الشعريّة) و (الصوتُ الشعريّ: لعنة الزمن وعزاء المكان) و (الإيقاع الصوتيّ: بقعة تنوير شعريّة مضاعَفَة) و (مركز التنوير والإشعاع الشعريّ) و (التنويرُ الصوريّ: من البقعة إلى اللقطة الشعريّة) و (المحكي الشعريّ وسردنة التنوير) و (المكان الشعريّ التنويريّ وتشكيل البقع الأرجوانيّة) و (ديناميّة الصورة الشعريّة ومشهديّة التنوير) و (البقع الأرجوانيّة: المكان والأسطورة) و (المحكي الشعريّ وتخصيب البقعة الأرجوانيّة) و (الوجه والمرآة: البقعة الأرجوانيّة الشعريّة المُضاعَفَة) و (الغربة الشعريّة: مغامرة اللغة والصورة) و (البقعة الأرجوانيّة الختاميّة)، وكل فقرة منها بلا أدنى شكّ تمثّل رؤية مكتملة ومكتفية بذاتها في معالجة النصوص الشعرية التي يعالجها الناقد في سياق وعي نقدي بالغ التأثير والتمركز والكثافة.
في بقعة نقدية أرجوانية من بقع الناقد لا الشاعر عنوانها: (الإيقاع الصوتيّ: بقعة تنوير شعريّة مضاعَفَة)، يقارب بقعة ارجوانية شعرية للشاعر المبدع نوري الجراح تتعلق بالصوت الشعري العابر للوزن بقوله: (لا يمكن للقصيدة أن تتنازل عن هذه البقعة التنويرية الشعرية المخصوصة بـ "الصوت" بوصفها تشكيلاً إيقاعياً ضارباً في شعريّته وتركيزه، وإذا كانت القصيدة العربية التقليديّة "قصيدة الوزن" تقوم في جزء جوهريّ أساس من أجزاء تشكيلها على بنية الصوت/الإيقاع الخارجيّ، فإنّ "قصيدة النثر" تستعين ببقع أرجوانيّة صوتيّة أخرى خارج قوس البحور الشعريّة كي تؤلّف إيقاعها الصوتيّ الأصيل، ولكلّ قصيدة نثر نظامها الإيقاعيّ الخاصّ النابع من طبيعة تجربتها وحساسيتها ولا تشبه أيّة قصيدة أخرى على هذا النحو).
ومن ثمّ يدخل مباشرة في إحدى قصائد الديوان ليقاربها بلغة نقدية تكاد تتفجّر لشدّة كثافتها النقدية على هذا النحو:
(في القصيدة الموسومة "سَمَكَةُ آخِيلْ/"أُنْشُوْدَاتْ" يتحرّى نوري الجرّاح توظيف مجموعة منتخبة من الأنشودات لنسج بنية إيقاعيّة دلاليّة تحرّك الفضاء الشعريّ باتجاه إطلاق الصوت، عن طريق لقطات شعريّة تنضوي تحت لواء كلّ أنشودة منها، ففي قصيدة أولى في هذا الفضاء الشعريّ معنونة بـ "أنشودة" تتراكب شبكة إيقاعات فيما بينها لتشكّل ما يمكن أن نسمّيه "الإيقاع الدلاليّ الشعريّ" بصفة تشكيليّة متجوهرة، تبدأ بهذه البقعة الأرجوانيّة الاستهلاليّة:
يَنَالُ السَّهْمُ مِنَ الْغَابَةِ كَمَا نَالَ الْبَرْقُ مِنْ كَتِفِ الْجَبَلْ.
يتحرّك الإيقاع الشعريّ الدلاليّ في سياق صورتين متوازيتين مشبّهتين ببعضهما، الصورة الأولى "يَنَالُ السَّهْمُ مِنَ الْغَابَةِ" تنفتح على حركيّة السهم المنطلق نحو الغابة بآليّة الفعل المضارع "ينال"، توازيها تماماً الصورة الثانية بعد حرف التشبيه المتوازي "كما" لترسم صوت النشيد القادم من جوف السماء إلى قمّة الأرض "نَالَ الْبَرْقُ مِنْ كَتِفِ الْجَبَلْ"، بحيث يوازي البرقُ السهمَ وتوازي الغابةُ كتفَ الجبل، ويوازي الفعل الماضي "نال" مضارعه "ينال"، في إيقاع شعريّ هارمونيّ بين صوتين مصوّرين متوازيين)، وبعدها يتحرّك بهذه اللغة النقدية الباهرة في تضاعيف لغة الشاعر ويكشف عن أسرارها وكموناتها بطريقة تعكس فهماً جديداً للصورة الإيقاعيّة الشعرية على
هذا النحو:
(تتحوّل الصورة إلى مشهد بانوراميّ له مركز صوريّ وله ظلال إيقاعيّة، وتشتغل الصورة في مجال الخفاء والتجلّي بين حساسيّة الانتظار
والخروج:
يَتَوَارَى بِالصُّوْرَةِ فِي ظِلَالٍ تَنْتَظِرُهُ،/ وَأَخْرُجُ بِهِ إِلَى مَلَأٍ حُسْنُهُ يَرْمُقُ السَّاعَةَ.
تشتغل مفردة "ظِلَالٍ" في تشكيلها الخفيّ على تمثيل الإيقاع الحركيّ الذاهب نحو أفق مراوغ بدلالة جملة الانتظار الفعليّة "تَنْتَظِرُهُ"، وبدلالة طاقة الحُسن التي تشيع في الملأ بإيقاعها التنويريّ المضيء، فضلاً على حركته الفعلية القابضة على الزمن بالنظر القصديّ الذي لا يخلو من وعيد "يَرْمُقُ السَّاعَةَ"، على نحو يغطّي المشهد بإيقاع صوريّ تنويريّ على صعيدَي الصوت والتشكيل المتنوّع).
وينتهي إلى مقاربة المقطع الأخيرة في هذه الواحة الشعرية بهذا القدر الطاغي من الحساسية النقدية التي تنافس الحساسية الشعرية:
رُكْبَتِي الَّتِي فَازَتْ بِالْأَرْضِ،/ وَعَيْنِي بِالْغُرُوبِ،/ أَسْبَقُ إِلَى يَوْمِكِ.
يشرف المقطع الأخير من القصيدة على عتبة إقفال تجمع بين استقرار الجسد وارتكاز أدواته الهابطة على الأرض، وسباق الزمن الذي يحرّض على مزيد من مقاربة الضوء، لأجل أن يولّد إيقاعه النشيديّ العام على الفوز بكنوز الأرض الظاهرة والباطنة والمؤجّلة، فصورة الهبوط على الأرض والفوز بها تصنع بقعة أرجوانيّة شعريّة مشكوك في نتائجها النسبيّة مع الزمن "رُكْبَتِي الَّتِي فَازَتْ بِالْأَرْضِ،"، ولاسيّما حين تفوز آلة الرؤية في الطبقة العليا من الجسد بالغروب "وَعَيْنِي بِالْغُرُوبِ،" كناية عن حضور إيقاع مموسق ينتقل من الأسفل إلى الأعلى ومن الشروق الغائب إلى الغروب الحاضر، كي تكون جملة الإقفال الشعريّة النهائيّة في المقطع الأخير والقصيدة بكلّيتها "أَسْبَقُ إِلَى يَوْمِك" قد تبلورت إيذاناً باكتمال حفل البقع الأرجوانيّة الشعريّة، وقد انتشرت على مساحة مقاطع القصيدة بألوان مختلفة وإيقاعات سحريّة متباينة للوصول إلى نقطة التنوير الشعريّ المطلقة.لا شكّ عندي في أنّ هذا الكتاب يمثل إضافة نوعية حقيقة لمنجز محمد صابر عبيد النقدي في نقد الظاهرة الشعرية العربية الجديدة، وما اختياره لتجربة نوري الجراح بعمقها الشعري الستراتيجي إلا التفاتة جوهرية نحو أفق جديد في مشروع عبيد النقدي ننتظر منه الكثير.