د. صلاح حاوي: نحن كائنات بلاغيَّة نتحاور ونتنفَّس وندافع عن أنفسنا استعاريَّاً
ثقافة
2020/08/10
+A
-A
البصرة/ صفاء ذياب
يسعى الأستاذ الدكتور صلاح حسن حاوي إلى إعادة إنتاج المفاهيم البلاغية بطرائق جديدة تواكب التطورات التي طرأت على العلوم والفلسفة والاجتماع، مستنداً في ذلك إلى خزين معرفي يؤهله ليطرح درسه الأكاديمي بشكل يختلف عن الطروحات التقليدية التي عرفها، لاسيّما على مستوى البلاغة التي لم تخرج منذ أكثر من قرن عن طروحات الجرجاني- على سبيل المثال-. وفي هذا قدّم حاوي كتبه في البلاغة الجديدة، مثل بلاغة الإقناع، وبلاغة الجمهور، وإشكاليات الحجاج، لتتحول هذه الكتب تدريجياً لمنهجيات الدراسات العليا في أقسام اللغة العربية:
* تختلف المفاهيم البلاغية مع كل مرحلة جديدة من مراحل الوعي الإنساني، إن كان في الفلسفة أو الأدب أو حتى الحياة اليومية.. كيف يمكن للبلاغة أن تواكب هذه التحوّلات؟
- السؤال في المفهوم سؤال شديد الأهمية، بل من أخطر الأسئلة التي تحتاج إلى مراجعة دائمة تنسجم مع الرؤى المعاصرة أو محاولة إعادة فهم التراث أو التاريخ البلاغي بشكل آخر، ولا شك أنّنا نحتاج إلى أكثر من محور لمقاربة المفهوم. وعندما بدأت حركات التجديد البلاغي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت خجولة أمام زعزعة المفهوم لوجود ذاكرة بلاغية تملك قدرة التحكّم بالنتاج البلاغي، وهنا يبدأ الانشطار بين البقاء في ما تقدّمه الذاكرة ومحاولة التحرّر منها، ولا يمكن القول إنّ المشاريع البلاغية كلّها في تلك المرحلة كانت على مستوى واحد في إدراك المفهوم والمصطلحات البلاغية أو الوظيفة أو نوعية الخطابات، فهناك الإحيائيون الذين لم يفكّروا في تجاوز ما صنعته الذاكرة وتحكّمت بنا؛ والنهضويون الذين انقسموا على أنفسهم بين الإحياء والتنوير؛ والتنويريون الذين حاولوا صياغة مفاهيم البلاغة على وفق ما قدّمته المقولة التنويرية، فكلّ فئة من هذه الجماعات تنظر إلى المفهوم البلاغي بطريقة مختلفة تحكمه علاقة البلاغة بالمقدّس والحياة والمجتمع.
* برزت في السنوات الأخيرة مفاهيم مثل بلاغة الجمهور والبلاغة الجديدة وبلاغة الشارع وغيرها.. ما الذي اختلف في فهمنا للبلاغة لتنتقل من بلاغة المنتج الى بلاغة المتلقي؟
- ظهور هذه الاتجاهات البلاغية المعاصرة لا يرتبط بالضرورة بعملية انتقال الاهتمام من بلاغة المتكلّم إلى بلاغة المخاطَب، بل هو نتاج التخلّص من الذاكرة المهيمنة التي تسهم في توجيه الدرس البلاغي نحو اتجاه واحد لا يمكن الحياد عنه، فضلاً عن ضعف وتقليص دور البلاغات البنيوية واللسانية فهي بلاغات تكتفي بذاتها وتكرّس من سلطة الخطاب وشعريته والعمليات التخييلية التي يمارسها ومع تقليص الدور البلاغي البنيوي بدأت ولادات متعدّدة لأنماط وتيارات بلاغية قادرة على فهم الخطابات المتزامنة معها وتحليلها، الأمر الآخر أنّ ظهور هذه الاتجاهات البلاغية المعاصرة ليس أمراً اعتباطياً، بل هو مرتبط بالحركة الفلسفية التي يعيشها الفكر الإنساني ويعتاش على متغيّراتها بظهور فلسفات ما بعد الحداثة وما تحمله هذه الفلسفات من وجهات نظر موجّهة للكثير من حقول المعرفة ومنها "البلاغة".
أمّا عن مفهوم "البلاغة الجديدة" فلا بد أن يبدأ الحديث عنه مع "شاييم بيرلمان وزميلته تيتيكاه"، فقد قدّما الحجاج بوصفه معادلاً مصطلحياً للبلاغة الجديدة، لأنّه أعاد النظر في بلاغة أرسطو القديمة ومعه استعادت البلاغة وظيفتها التي أزاحتها البلاغة البنيوية اللسانية وهي "الإقناع"، لكنّ الاختزال المتواصل لمفهوم البلاغة الجديدة وحصره بالحجاج أمرٌ ليس دقيقاً وهذا ما نلاحظه في أغلب الدراسات البلاغية العربية لأنَّ البلاغة الجديدة مفهوم كلّي يستوعب الاتجاهات المعاصرة مثل "بلاغة الحجاج، وبلاغة الجمهور، والمرئية والنقدية والبلاغة التقابلية" والبلاغات الأخرى التي انفتحت على خطابات جديدة وواجهتها بآليات جديدة ومفاهيم مختلفة عمّا اعتدنا عليه، مع "بلاغة الجمهور" أراد عماد عبد اللطيف التفكير في التخلّص من التاريخ السلبي للبلاغة بوصفها أداة هيمنة المتكلّم وبدأ التفكير في دراسة استجابات الجماهير بوصفها خطابات بلاغية قادرة على تحقيق الوعي، وظهرت فيما بعد البلاغات التحريرية مثل "البلاغة النقدية"، و"بلاغة الاحتجاج".
* غالباً ما نعود إلى حكاياتنا الشعبية والأمثال الشعبية كنماذج للاستعارة أو الكناية أو المجاز، حتى ظهر كتاب (الاستعارات التي نحيا بها) وجعلنا نلتفت لهذه السياقات البلاغية، فهل أثّر هذا أيضاً في الدرس الأكاديمي للبلاغة؟
- قديماً قال أرسطو إنَّ الإنسان حيوان استعاري، ثم جدّد ابن سينا العلاقة بين الاستعارة وطفولة البشرية، بمعنى أنّنا كائنات بلاغية نتحاور ونتنفس ونقضي حوائجنا وندافع عن أنفسنا استعارياً، ولذا فإن طقوسنا وممارساتنا هي شكل كنائي واستعاري، لكنّه غير مدوّن أو غير ملفوظ، وما الحكايات الشعبية أو الأمثال إلا تمثيل استعاري لحياتنا، فهناك مجال مصدر نعبّر من خلاله عمّا يقابله وهو مجال الهدف بحسب تعبير "لايكوف" و"جونسون". فالاستعارة كانت ومازالت أداة التعبير عن الأهداف
والمقاصد.
* لا يمكن للباحثين حالياً إهمال الخطاب وطرائق تشكّله وإنتاجه، إلا أنَّ موضوع الخطاب وتحليله بقيَ مقتصراً على الأساتذة وطلبة الدراسات العليا، من دون أن يدخل في التحليل الصحفي أو النقد غير الأكاديمي أو حتى في المحادثات المتلفزة.. هل المشكلة في فهم طرائق تحليل الخطاب أم في التلقي لهذا التحليل؟
- يمثّل حقل تحليل الخطاب مجالاً غنياً في مداخله ومدارسه وأدواته وإجراءاته، لكنّه صعب التحديد أو حصره في مدخل محدّد أو وصف ضيّق، فهو ليس العمل على مستويات اللغة كما يعتقد محللو النص، وليس الاكتفاء بتحليل الظاهرة كما يفكر الاجتماعيون والنقديون، أو البحث في مواطن الحجّة والإقناع كما يتوهّم البلاغيون، بل هو حقل مشبّع بالمداخل، فهناك المدرسة الفرنسية مع ألتوسير وفوكو، ومنغنيو وباتريك شارودو وغيرهم، والمدرسة الانجلوسكسونية بتياراتها المتعدّدة، ومن حيث المدخل البلاغي فهناك المدخل الحجاجي والبلاغة المرئية والنقدية وبلاغة الجمهور، وتحليل الإيديوغرافات، فنحن نواجه خطابات مختلفة ونؤمن بوجودها، ولذا علينا أن نقدّم مفهوماً جديداً للبلاغة يستوعب تلك الخطاب عند تحليلها. ويبدو أن خطوات الأكاديمية العراقية في "تحليل الخطاب" مازالت في مراحلها الأولى وتحتاج إلى المزيد من الشجاعة والممارسة كي يمكن نقلها من قاعات الدرس الجامعي إلى إمكانية التحليل الصحفي أو النقد غير الأكاديمي، بل نحتاج إلى تصدير هذا الحقل بشكل منضبط لأن عدم تصديره بالشكل المنضبط يؤثّر سلباً في توجيه التحليل الصحفي توجيهاً مشوّهاً، بل ضرورة السعي إلى إنشاء مراكز وقاعات دراسية لتحليل الخطاب وتقنين هذا الدرس وتنظيمه، فلا أبالغ لو قلت إنّني أخشى من التعامل المجاني معه لأن عدم ضبط آليات تحليل الخطاب ومصطلحاته يجعل الباحثين يراوحون بين التحليل اللغوي والتحليل النصي وتحليل الخطاب.
* أصدرت كتابك (بلاغة الإقناع) لتدرس فيه النقد العربي القديم، غير أن هذا العنوان هو في مجمله المشكلة التي يعاني منها الجمهور بشكل عام، فلم يعد الخطاب السياسي أو الديني يمتلك هذا النوع من البلاغة، ما سبب ذلك؟
- الخطابات الدينية والسياسية هي خطابات ساعية نحو الإقناع، بل إن هدفها الأساس هو الإقناع لأنَّها خطابات عقدية، والعقيدة تُبنى من أجل الإقناع، وقد كُرّست الجهود لتحقيق هذه الوظيفة المهمة، فالأمر مرتبط بمساحة المريدين فالسياسي أو الديني له مريدون يعمل على إنتاج التخييل أولاً قبل الإقناع وهذه نقطة جوهرية، فالتخييل مقدّمة بلاغية - بوصف البلاغة لعبة التحايل- تسهم في إنجاز الفعل الإقناعي، وقد تعدّدت أدوات الخطاب السياسي والديني فكلّما تفشل أداة معيّنة يذهب إلى أداة أخرى لأنه يلهث من أجل وظيفة الأساس وهي الإقناع.
* مثلما اهتمت الدراسات الأدبية بالرواية منذ سنوات، اهتمت الدراسات البلاغية بـ "الحجاج والتداولية" -مثلاً- مقابل إهمال لمفاهيم أخرى.. أين تكمن خطورة اختيار الموضوع المدروس؟
- الراهن يُحدّد صراع الخطابات ويتجاوز ما كان خطاباً مهيمناً لا يمكن تجاوزه، فقد تعوّد الدرس البلاغي على تحليل خطابات مقدّسة ونخبوية ولم يفكر في الخطاب الشعبي أو الجماهيري أو ما يمكن توسيع القول به خطاب المقموعين، ومن المؤكّد أن الخطابات السياسية والدينية تدخل ضمن النخبوي تقابلها وتصارعها خطابات الجماهير والشعبية التي تنتج بلاغتها بوصفها بلاغة مناضلة أو مقاومة، وهنا تتغيّر المعادلة فالخطابات النخبوية تعمد إلى تخييل المريدين ومن ثمّ إنتاج الإقناع كما قلنا سابقاً، لكنّ الخطابات الشعبية تعمل على خلق الوعي لدى الفئات المستهدفة وإنتاج التحرّر عبر تكريس الإقناع، أي أن الهدف الإقناعي هدف مشترك، لكنّ طرق الوصول إليه مختلفة باختلاف مبرّرات تحقيقه؛ لا نشك في أن عنصر الاستجابة محور العمليتين أو الخطابين المتقابلين "الديني-السياسي" من جهة و"الجماهيري-الشعبي" من جهة أخرى، لكنّ كيفية تحقيق الاستجابة هو المتغيّر وهذه الكيفية تعتمد تعديل المفاهيم البلاغية أو البحث عن مفاهيم جديدة تفضح خطاب السلطة السياسية أو الدينية ومن ثمّ الوصول إلى الغايات
والوظائف.
من جهة أخرى لا يمكن أن نصنّف الخطاب الروائي بأنه خطاب تخييلي له وظيفة أدبية لا يمكن النظر إلا من الزاوية الأدبية، فهذه نظرة قاصرة كما لا يمكن أن نجعله رهين الحقل السردي فهو "خطاب" يمتاز بتنوّعه الاجتماعي والسياسي والأدبي والثقافي؛ ولذا صار بالإمكان الاجتهاد في دراسته بوصفه خطاباً لا بوصفه سرداً ورواية لا بد من كشف تقنياتها الفنية والروائية فحسب، بل ضرورة إخضاعها للتحليل النقدي للخطاب أو الاتجاهات البلاغية المعاصرة.
* إذا كنا لا ننظر للرواية على أنَّها خطاب تخييلي، فهل هذا يعني أنَّ علينا أن ندرسها بوصفها خطاباً أقرب للواقع، وهذا منهج المادية التاريخية والدراسات الثقافية، على الرغم من أنَّها -حتى وإن كانت تاريخية- فهي نص تخييلي حسب الرؤى النقدية؟
- البحث عن رؤية جديدة للخطاب الروائي لا يعني بالضرورة إزاحة الرؤية السابقة، فالتخييلية صفة راسخة لا يمكن القول بإزاحتها وعدم التفكير فيها، لكنّ القول بفرادتها أمر يحتاج إلى مراجعة بغض النظر عن الاتفاق مع المادية التاريخية أو الاختلاف معها في واقعية الرواية التي نؤمن بأنَّها خطاب أسهم الواقع في إنتاجه وصار حاملاً لحوادثه، ولذا بالإمكان تصنيفه بأنَّه خطاب الرؤى، والأيديولوجية، وتشكيل الجماعات، وتصنيف الهويات وهذه المحمولات تبعث رسائل لمحللي الخطاب على ضرورة إعادة النظر في تحليل خطاب الرواية بعيداً عن التصنيف التقليدي الذي يجعل من المروي كتابة تخييلية والراوي كائناً يقود عملية صياغة التخييل والمروي له ضحيته، فضلاً عن الحاجة إلى التفكير في المكان والزمان والشخصيات تفكيراً مختلفاً يتناسب مع متغيّرات التحليل والتخلص نسبياً من التعامل معها بوصفها عناصر بناء والذهاب إلى تحديد قدرتها الخطابية وكشف مساهمتها الإقناعية.
فالخطاب الروائي يعقد علاقة استعارية غاية في الأهمية بين التعبير والمفهوم على المستوى البنيوي والانطولوجي والثقافي/الاتجاهي، مثلما يعقد علاقة كنائية مع الواقع تتطلّب منّا النظر الدقيق لتفاصيل هذه العلاقة بين اللازم والملزوم والبحث عن وسائطها، وقد يرى القارئ أن القول بوجود الاستعارة والكناية هي إدانة حقيقية لانتصار البعد التخييلي للرواية، وإجابتي عن ذلك: من قال إن الاستعارة والكناية عنصران تخييلان؟! بل يمثّلان أدوات فهم العالم فالكناية تحمل بعداً ثقافياً بامتياز ولم تنجح في أن تكون عنصراً جمالياً، أمّا الاستعارة فقد خشي تراثنا البلاغي من إدخال البعد التخييلي فيها حذراً من دخول التخييل في الخطاب القرآني.