أ.د.علي حداد
واجهني ـ يوم قدمت في العام 1987م عنوان أطروحتي للدكتوراه (الشاعر العراقي الحديث ناقداً) موقف عميد الكلية ـ حينذاك ـ الراحل الدكتور (نوري حمودي القيسي) الرافض لتسجيل الموضوع، كون أن جلّ هؤلاء الشعراء الذين أسعى لتناولهم ممن لايمتلكون مؤلفات نقدية مشخصة، وما سأعتمده لهم هو محض كتابات (صحفية) في الجرائد والمجلات ليس إلا، وتلك ـ طبقاً لقناعته ـ لاترقى لموثوقية يتوخاها العمل الأكاديمي الرصين
يومها ـ وبكل تبجيل الطالب لأستاذه ـ ذهبت إلى مكتبه، وأبديت له المبررات التي تجعلني متمسكاً بالعنوان وموضوعته، ومنها التساؤل أمامه أننا ـ وأعني الأكاديميين، ننشر في الصحف والمجلات ما يعنّ لنا نشره، أفترانا نغادر فيه اشتراطات مثاقفتنا وتأسيسنا المعرفي، فنتقمص سواها، أم أن ما ننشره (صحفياً) ينبني على ماتكيفت له قدراتنا الكتابية ـ وعياً ولغة ـ وهو الأمر ذاته الذي يشمل سوانا من الكتّاب غير الأكاديميين؟. والحقيقة فإن موقف أستاذنا القيسي (رحمه الله) لم يكن من متبنياته وحده، بل هو نسق راسخ التبني ـ حينذاك ـ عند كثير من الأساتذة الجامعيين الذين يعدّون النشر في الصحف والمجلات جهداً عابراً لايعتد به، بل إن بعضهم لينظر إليه بعين الزراية والاستخفاف وتجاهل أن يكون من المصادر المعتمدة في الكتابة المنهجية الأكاديمية. وإذا كان ذلك موقفاً (جامعياً) مشخّصاً فإنّ بأزائه موقفاً آخر ـ لايزال يضادّه ـ يتبناه كثير ممن يمارسون الكتابة الصُّحفية ـ من خارج الوسط الجامعي الذين يعيبون على الوجهة الأكاديمية ما فيها من محافظة في التخيّر، وما هي عليه من منهجية شكلية صارمة.
(1)
من البداهة أن تعرّف الكتابة النقدية الصُحفيّة بأنها ما ينشر في الصفحات الثقافية التي تحددها المجلات والصحف غير المتخصصة في الإبداع من مقالات وقراءات محدودة المقادير والأفكار في مختلف صنوف الآداب والفنون. ولكن الأمر لن يكون بالبداهة ذاتها مع الكتابة الأخرى (الأكاديمية) التي يذهب التصور السائد عنها أنها مطابقة تماماً لمفهوم (الجامعية)، وليس الحال كذلك عند تمحيص أمر تمركز المفهومين في السائد الثقافي العربي ـ وهو ما سنقف عنده في قراءة أخرى نعد بها ـ مكتفين بالقول هنا إننا نكرس التقابل المتباين في مقالتنا هذه بين الرؤية التي يحملها كثير من حملة الشهادات الجامعية العليا ـ لاسواهم ـ عن الكتابة في المجلات والصحف، وما يقابله من موقف عند من لا يحملون تلك الشهادات عن الكتابة التي ينجزها أولئك الجامعيون.
(2)
يرى (أ .آ. ريشاردز) في كتابه الأشهر (مبادئ النقد الأدبي) أن المهمة المركزية للنقد الأدبي تكاد تتلخص في البحث عن إجابة السؤال الآتي: ماالذي يضفي قيمة بعينها على قراءتنا للنص (شعراً أوسرداً)؟. ولأن الإجابة ليست من اليسر المتصور فقد تعددت الرؤى والمواقف والاتجاهات التي صنعت للنقد مدارسه بمختلف مسمياتها وأسسها وإجراءاتها القرائية. وعندنا فإن الكتابة النقدية بين بعدي (أكاديميتها) و(صُحفيّتها) يمكن لها أن تستبين بمقدار المسعى فيها الى الاقتراب ـ أو الابتعاد ـ من مقولة (ريشاردز) مارّة الذكر التي أناطت الأمر بالمحتوى القيمي لما يكتب، وما يستوجبه من التزام باشتراطات الكتابة ووعيها الذي تضعه بين يدي التلقي. وعلى هذا فهي ستبدو بمسحة (أكاديمية) حصيفة حين تكون قيد مامرّ ذكره، بغض النظر عن المنحدرات المعرفية لشخصية كاتبها وطبيعة المجال الكتابي الذي نشرت فيه، وفي الأخرى ستكون (صُحفية)، بغض البصر عن الأمرين كليهما
كذلك.
ولعله من الواجب القول هنا أننا لانغض من مكانة أي من الكتابتين لصالح الأخرى، لأن وجودها كليهما ضرورة ثقافية مهمة. غير أن مانودّ قوله هو أن للكتابة النقدية (الصُّحفية) وجهتها، وطبيعة القراء الذين تخاطبهم. ولها اشتراطاتها المحكومة بالظرف الكتابي والمساحة المتاحة لمتنها. وهي على أدنى احتمالات قيميتها ستجد قارئاً ما تقع عينه عليها، لتمدّه بحصة معرفية أياً كان مقدار ما يتلقاه منها، على عكس الأخرى (الأكاديمية) المدونة في متون متخصصة تلزمها بطبائع منهجية لا بد له من التماهي مع وجهتها وفلسفتها، وطرائق اشتغالها، والتي غالباً ماتنتظر قارئاً متخصصاً تستدعيه إليها احتياجاته البحثية. وتأسيساً على هذا فليست الشهادة الجامعية هي التي تجعل مما يدونه حاملها نقداً جديراً بمسماه، فربّ بحث جامعي لايكاد يشكل قيمة قرائية لافتة، تجعله بالأهمية ذاتها التي يخبر عنها جهد نقدي ينشر في صحيفة أو مجلة ما، يكتبه باحث جاد لم ينل حظوة الشهادة الأكاديمية العليا التي يفاخره بها نظيره مار الذكر. وبالمقابل فهناك كتاب ونقاد يعايشون حالة (وتر) من الأكاديمية وسخريتهم من المتلبسين بها تلك التي أدت بهم ـ وبشيء من المناكفة ـ الى التمرد على اشتراطات الكتابة النقدية الموضوعية، والتفاخر بالتجافي العامد لها، ما أفقد كتاباتهم وضوح الرؤية ورصانة الطرح وتسلسله المنطقي، ليستحيل كثير من تلك الكتابات (كلاماً) ينقصه شرطا الكلام الأساس: الوضوح والإبانة. هكذا وانطلاقاً من هذه الرؤية نقرر أنه لايوجد ناقد أكاديمي وآخر صُحفي بل يوجد نقد يمكن وضعه تحت ذينك التوصيفين، يكتبه الأكاديمي كما يكتبه غيره، وكل ناقد حصيف ـ بالأكاديمية أو من دونها ـ إنما يكتب كلا النقدين، بمعرفة طبيعة كل منهما والتأسيس المعرفي لشخصيته. لقد أنجز كثير من أساتذتنا الكبار جهدهم الأكاديمي مخبرين فيه عن الحضور المعرفي الوطيد لكل منهم، من دون أن يتخلوا عن الكتابة في الصحف، حتى لقد كانت لبعضهم وقفات صحفية دالة على أسمائهم وحدهم، كالذي كان للدكتورعلي جواد الطاهر، والدكتور جلال الخياط، والدكتور داود سلوم، والأستاذ مدني صالح، وسواهم كثير.
وبالمقابل فقد كانت لكتابات الأستاذ فاضل ثامر، والأستاذ ياسين النصير، والأستاذ محمد مبارك، والأستاذ (الدكتور لاحقاً) حاتم الصكر، وسواهم ما أرسى قيماً معرفية عالية وتوافراً على رؤية أكاديمية غاية في النضج المنهجي، جعلتها في صلب اهتمام الدرس الجامعي واحتياجاته. وبين أولئك وهؤلاء لم تكد النقدية العراقية لتطيل الوقوف عند خضم من الزبد الكتابي، سواء أكان بأكاديميته المنغلقة على نفسها، أم بصُحفيته التي استدرجتها ممارسات بهتت قيمتها مع الزمن. إن ما تستلزمه الكتابة النقدية ـ أينما كان متن نشرها ـ مثاقفة عالية ورؤية معرفية قارة الإشراق في الموقف ومسار تمثله الكتابي. تساوق ذلك مقدرة واعية من الاستحضار لأدوات البحث ومنهجيته ورصانة التعبير ودقته. وحين تخلو تلك الكتابة منها فإنها تستحيل مجرد تهويمات واستثارات تلتف على مشادات لم تكتمل مع وعي الذات الكاتبة وادعاءاتها، ولن يشفع لها الالتياذ باللقب الجامعي، مثلما لن ينال منها ألّا يضع كاتبها ذلك اللقب قبل اسمه.