المنحى الاجتماعي للنهضة

الصفحة الاخيرة 2020/08/22
...

 جواد علي كسّار
استأثرت واقعة 1 محرم 61هـ باهتمامات عقول الدارسين، واستقطبت قصة الطف مختلف مناهج الباحثين، وكان من بينها المنهج الاجتماعي.
لقد استطاع المنهج الاجتماعي في دراسة النهضة الحسينية، أن يهيمن على شطر كبير من نتاج الكتّاب والمؤلفين خلال القرن الأخير، ويتقدّم على حقل الدراسات التأريخية والأدبية الذي كان يفرض هيمنته فيما سبق.
 برز هذا المنهج واضحاً مع عبد الله العلايلي في كتابه المعروف: «سمو المعنى في سمو الذات، أو أشعة من حياة الإمام الحسين»، كما طغى على دراسة متميّزة لإبراهيم بيضون، صدرت بعنوان: «اتجاهات المعارضة في الكوفة» سعى من خلالها إلى دراسة التكوين الاجتماعي والسياسي لهذه المدينة العريقة، في المدّة التي سبقت النهضة الحسينية وعاصرتها، ومن المعالجات التي برز فيها المنهج الاجتماعي واضحاً هي دراسة أسد حيدر: «نهضة الحسين» حتى أن هذا الكتاب صار على وجازته بمنزلة الموسوعة التي غطّت الواقعة الحسينية، من منظور اجتماعي متعدّد الأبعاد.
لا نستطيع أن نغفل في هذا المجال أيضاً ثلاثية باقر شريف القرشي، فهذه الموسوعة عن الإمام الحسين عليه السلام، وإن طغى عليها جانب التأريخ، بيدَ أن المؤلف لم يهمل أبداً البيئة الاجتماعية لعصر الواقعة وما بعدها.
لكن يبقى محمد مهدي شمس الدين مميّزاً على هذا الصعيد، حتى يمكن القول أن الناظم المشترك لثلاثيته التي بدأها بكتاب: «ثورة الحسين ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية» وتلاها بكتابه «أنصار الحسين: الرجال والدلالات»، وختمها بالإصدار الرائع: «ثورة الحسين في الوجدان الشعبي»؛ الناظم المشترك لهذه الكتب الثلاثة على اختلاف موضوعها، هو العنصر الاجتماعي.
المبدع في استعمال شمس الدين للبُعد الاجتماعي، هو توظيفه المزدوج لمعطيات المنهج الاجتماعي في حقلين متكاملين، الأول هو عصر النهضة الحسينية وواقع المجتمع يومذاك، والثاني تنامي حلقات البحث ومراكمته بلوغاً إلى أوضاعنا الاجتماعية الحاضرة.
كان أبرز ما حرص عليه في الكتاب الأول هو إقحام جانب الثروة وعدم إهمال الاقتصاد في التكوين الاجتماعي، من خلال التحليل الذي قدّمه للبنية الطبقية لمجتمع المسلمين يومذاك، إذ لم يكتفِ بالتصنيف الطبقي على أساس الأنساب والتموضع الأسري، والتجاذب القبلي بين عرب الشمال وعرب الجنوب وبين المضرية والعدنانية، والمكيين والمدنيين أو الأنصار والمهاجرين، بل اقتحم بأدواته المنهجية البارعة، ما يتوارى وراء هذه الخرائط، ليكشف عن دور عظيم لعنصر تراكم الثروات في التمييز الطبقي، ويقرأ أثره بعد ذلك في المواقف التي اختلفت من نهضة الحسين.
صحيح ان الجغرافية الإنسانية للبصرة تقوم يومذاك على أغلبية من ربيعة ومضر أو عرب الشمال، والكوفة منجذبة بأغلبيتها إلى قبائل اليمن وعرب الحجاز، لكن ذلك لم يكن العامل الوحيد في تنافر المدينتين وتباعد الموقف بينهما؛ بل كان للبناء الطبقي بالمنظور الاقتصادي والمعيشي والثقافي دور في صياغة الاتجاهات والمواقف.
كان من نتائج هذا التحليل نظريته عن الإنسان المسطّح والإنسان المكعّب؛ الأول مؤسّسة خاصة مغلقة يعيش لنفسه، يوظف لها فكره وذكاءه وثروته وشبكة علاقاته الاجتماعية، دون أن تأخذه كلّ هذه الإمكانات إلى ما هو أبعد من هذا الهدف؛ والثاني يجعل حياته مشروعاً لخدمة الآخرين، ويعيش ما لديه من إمكانات في سبيل قضية عادلة.
بالإضافة إلى مفهومي الإنسان المسطّح والمكعّب، خرج شمس الدين بمفهوم مزدوج آخر عن المجتمع الذي يهيمن عليه من جهة، التقاعس وروح التواكل تحت منطق: «الناس سيكفونك»، وروح الخوف من جهة أخرى، تحت منطق: «غداً يأتيك أهل الشام»، و«ما لنا والدخول في أمر السلطان» ليستنتج أن أغلب مجتمعاتنا ترزح تحت وطأة هذين العاملين!