في رواية {بيت السودان»
ثقافة
2019/01/05
+A
-A
علي حسن الفواز
تأخذنا رواية "بيت السودان"، للروائي محمد حيّاوي، والصادرة عن دار الآداب/ بيروت 2017، الى سرديات الحرمان، حيث الكشف عن محنة الوجود من خلال محنة الجسد والهوية، ومحنة الذات من خلال لعبة تغريب النسق الحكائي لثيمة الحرمان، إذ يكون المُقترب السردي في هذه الرواية قائما على اساس فكِّ التباس هذا النسق، عبر معاينة خفايا عوالمها، وعبر رصد التحولات العميقة التي مسّت وحداتها في المكان، والزمن والشخصية، وكأن السارد العليم يؤسس لعبته السردية على هذا (المسّ) وبإيعاز من الروائي، لتشييد سردنة متخيّلة لانثربولوجيا الشخصية الممسوسة بجندرها وبسرائر عالمها الجواني.
حيث مقاربة شفرات الجسد الملون، ومقاربة الكشف عن وظيفة البغي وانسحاقها، وعبر تتبع مصاحباتها الحكائية، تلك التي تقود للتعرّف على خفايا عالمها عبر التمثيل السردي للحكايات، وعبر تقانة استعادة منطق الراوي العليم، المرهون بالمراقبة والتتبع، ورصد عوالم الشخصيات في البيت الحكائي بوصفه المجال السيميائي، الذي تتأسطر فيه تلك الشخصيات، عبر اقنعة الأبطال أو الضحايا.
العنوان بوصفه مفتاحا تأويلياً
عناية محمد حيّاوي بالسيمياء المكانية جعلته ينحاز الى ترسيم علاقة سردية ما بين المكان، وبين حيواته، حيث تكون احالات المكان إلى المثيولوجيا، وإلى الرغبة المحرمة، هي المقابل العلاماتي لإحالة الشخصية إلى الفكرة الإيهامية للإثم، وهذا ما جعل دالّة العنوان تكتسب إثارتها من خلال توسيع المستوى الدلالي للمكان/ البيت.
العزل السيميائي للمكان هو ما يُعطي لتسميته "بيت السودان" حافزا لأن يكون مكانا للمغامرة السردية، حيث يتبدى حضور الذات الانثوية عبر دلالتها السردية المكتظة بالإشارات، وحيث ما تُحيل اليه من تسمية تبدو فيها تلك المغامرة وكأنها الخيار الذي يواصل الاشتغال عليه محمد حيّاوي في تتبع عالم أمكنة المحو وعوالم البغايا المسحوقات، كمجالات للكشف عن تعرية الزمن الواقعي من خلال تنشيط زمن السرد، بوصفه فعلا واعيا للذات الساردة، ولتنشيط التخيّل السردي عبر استدعاء احداث، وصراعات، وحكايات تتأنسن فيها هويات تلك الامكنة، والتي تخضع ايضا لعوامل تحول الواقع ورهابه وعنفه.
البيت في الرواية هو دلالة للوجود الباشلاري، عبر ممارسة وظيفة الانتماء، والعزل، وعبر تحفيز وظائف الألفة من خلال الإشباع والمتعة والغناء والرقص، والسودان تسمية لها دلالتها الجندرية والانثربولوجية، وسردنة العلاقة ما بين الأوّل والثاني هو محاولة تأطير هوياتي للمكان والشخصيات والوظائف، وتعبير عن حركة فعل الصراع داخلها، وعبر اضاءة علاقاتها الملتبسة والمتناقضة في الداخل، ومع ما هو خارج البيت.
لقد سعت الرواية منذ بدء (عتبة العنوان) تغليب أثر المكان الواقعي، على الفعل التخييلي للأحداث، ولتحبيكها في سياق تمثيل علاقتها مع تفصيلات المكان، ومع الوظائف التي تقوم بها الشخصيات داخله، فهي داخل هذا المكان، غيره خارجه، وأنّ طاقة السرد المفتوحة في الرواية أسهمت في تحويل المكان/ البيت الى بؤرة رفض للعنف والاحتلال، وهو ما يجعله يتعرّض للحرق، وكأنه إرهاص بالحرق العمومي للمكان السيميائي العمومي/ الوطن الذي تصطنع حرائقه الحروب والاستبداد والمحتلون.
الشخصيات وعقدة فرويد
تبئير وجود الشخصيات في الرواية ارتبط بالحمولات الدلالية لهذه الشخصيات، فـ "علي/ علاوي" هو شخصية مُلفّقة سرديا، تبحث عن هويتها وأصلها، وأنّ وجوده ـ السردي ـ في المكان يجعله موجّها مركزيا لعلاقات الشخصيات الأخرى به، مثلما هو شخصية تعيش مُركب قلقها، واخصائها، وخروجها عن الوظيفة ـ السياقية ـ للبيت، وعن مركزية اللون السيميائي، يجعله يعيش قسوة كبته الجنسي مع الأم/ الأنثى "ياقوت"، التي تجد في في جسده الأبيض عنصر تعويضٍ إشباعي أمومي وأيروسي، وهو ما يرصده "علاوي" في نظرتها إليه، وفي شغفها معه "تتأملني بصمت مشوب بنظرة عشق ووله عميق (ص 19).
كما أنّ صوتها الداخلي يتحول إلى اعتراف إيهامي بكبت فعل الرغبة، والتصريح بشفرتها الإشباعية، والذي تعيش عبره "ياقوت" صراعها المُعذّب، بين الرغبة والإثم، بين الامتلاك والضياع "أنا أحترق من داخلي يا عزيزي وأموت عشرات المرات في اليوم لهفة عليك. أريد أن أدخلك كلك في جسدي وأتوحد معك" (ص 123).
تمركز الشخصيات حول فعل الرغبة في البيت، يُحيل إلى تأزيم وجودها في المكان، إذ يكون سببا في طرد الفتاة "رُقيَّة" التي رصدت رغبتها في "علاوي"، وهو ما دفع إلى انتحارها غرقا، لتجد "ياقوت" نفسها أمام عقدة إثمٍ وذنب آخرين، تلاحقها روح الغريقة
الهائمة.
شخصيات الرواية الآخرى تتوزع بين وظيفتها الإسنادية، وبين وظيفتها التصويرية، فتترك قارئها عند تحولات سردية مفارقة للشخصيات، حيث تتحول عفاف، حبيبة "علاوي"، إلى شخصية رافضة للاحتلال، وتقود مجموعة لمواجهته واختطاف إحدى المجنّدات الأمريكيات، مثلما تتحول شخصية "سيِّد محسن" الشبقية إلى شخصية خائنة، تلاحق "علاوي" بعد أحداث الانتفاضة، وهروب "زيدان الحوذي" والد عفاف وصاحب الاوهام السياسية، الى جهة مجهولة.
هذا التحوّل الغرائبي أفقد البيت عجائبيته، مثلما اوقف العجوز "عجيبة" من أن تُكمل دورها في تشييد "بيت السودان" ورفده بالفتيات الهاربات، واللقيطات، وليتحوّل عنده البيت الى عتبة سردية تتناص مع التحوّل الذي حدث في الواقع بعد قيام "ضمد" الرجل الحمائي للبيت، بتهريب "علاوي" إلى موقع أور الأثري بعيدا عن أعين الرقابة التي تبحث عنه.
سردية الخروج من البيت
الخروج من البيت والتمرد على حكاياته الداخلية هو نظير للتحوّل العاصف في الواقع، بدءا من تعرّف "علاوي" على عالم الدراسة، وعلى اشباح الملوك السومريين في أور، وتعرّف "عفاف" على الأفكار الثورية والماركسية، وفقدان عقدة "ياقوت" الايروسية والإشباعية مع "علاوي" بعد هروبه، وتعرّض البيت للاحتراق.
إن ثيمة الخروج من بيت السودان هي تورية لفعل الخروج من (سحر العالم) كما سمّاه ماكس فيبر، حيث يكون المكان عرضة للتفكك العميق، عبر تفكك حكايته، حتّى تبدو الإحالة السردية لاختباء "علاوي" في آثار أور، وكأنها اقتراح لنوعٍ من الخلاص والتطهير، من خلال الاقتراب من روح البطولة السومرية، لمواجهة مظاهر العنف السياسي بعد أحداث غزو الكويت ودخول العراق مرحلة معقدة من الصراع السياسي والأهلي.
الراوي العليم أو "علاوي" يمارس وظيفة الحكواتي، إذ يرصد عبر هذه الوظيفة طبيعة تحولاته الشخصية، وطقوس عزلته على سطح "بيت السودان" وكأنّها عزلة جندرية ورمزية، ليجد في هذه العزلة وظيفة خروجه الأولى من البيت، حيث يشم رائحة الفتاة المعفرّة بعطر الاضرحة، وهي رائحة ضديَّة لما هو مألوف في البيت، مثلما يجد في رفض "عفاف" تقبيله خروجا على سياق الطاعة المفروض في البيت، ليكون خروجه الأخير هو الاختباء عند أرواح الملوك السومريين "فوجئت بالعزلة الثقيلة في أور النائية عن المدينة ولا يفكر أحد في المجيء اليها، وبالظلمة المطبقة على التلال الغامضة التي تضم رفات الملوك السومريين وأميراتهم وجواريهم وحراسهم وأسرارهم، وشعرتُ بوطأة التاريخ الثقيلة وغموضه. ( ص 47)
إنّ استحضار التاريخ بدلالة هذا الوصف قد يكون خيارا لتوسيع لعبة السرد، ومحاولة لتبرير فكرة الخروج أو التمرد على البيت الغامض، إلى العالم المتشظي، وإلى وضع عالم (السودان) أمام محنتهم في المكان العمومي، حيث لعبت الحرب دورا في حرق البيت، وفي تغريبهم عن سحر حكاياتهم في عالمهم الخصوصي.