عبدالزهرة زكي
تتحدث سيدة كانت قد هاجرت مع والدتها منذ سنوات، حين كانت طفلة في الخامسة، من بورتوريكو إلى الولايات المتحدة فتروي انطباعها الأول عن تمثال الحرية بعد مشاهدته مباشرة، فتقول: «عندما رأيت تمثال الحرية للمرة الأولى اعتقدت أنَّ الأيقونة كانت تحمل مخروطاً عملاقاً من الآيس كريم».
إنها تتحدث عن المشعل إذاً، والأساس في النصب هو المشعل، مشعل الحرية كما يراه الكبار ويفهمون قيمة رمزيته، لكنْ ها هو المشعل لم يتبادر في ذهن الطفلة إلا على أنه مخروط عملاق للآيس كريم.
هذا ما حدا بوالدة الطفلة لأنْ (تصحّح) تصوّر طفلتها:» لا، لا، هذه هي الشعلة التي تحملها (فتاة التمثال) حتى يتمكن الجميع في العالم من رؤية مكان هذا البلد الرائع، وحيث يمكن للناس أنْ يكونوا كما يريدون».
في ضوء هذه الرواية فإنَّ الطفلة كانت تتصور ما تحتاج إليه فعلاً (الآيس كريم)، بينما كانت الأم تفكر بما تصبو هي إليه، فعلاً أيضاً، لقد كانت تفكر بالشعلة كشعلة للحرية فحسب.
الشعوب أحياناً مثل طفلة بورتوريكو ترى (المخروط) فيمضي انتباهها إلى الآيس كريم لا الحرية، هذا هو منطق الحياة وأولوياتها. كلا المفهومين هنا؛ الآيس كريم، والحرية مفهومان مجردان؛ الآيس كريم كناية عن الجوع بينما الحرية تحيل إلى السياسة.
في السياسة غالباً ما تكون الحاجات هي ما تخلق تصوراتنا وتوجّه تهيؤاتنا وترتّب أولوياتنا؛ الحاجة إلى الخبز حين يُفتقد الخبز تكون أكبر من الحاجة إلى السلام، لكنَّ الحاجة إلى السلام تسبق الحاجة إلى الحرية حين يغيب السلام. مع هذا لا تراتب بين هذه الحاجات الثلاث قدر ما هي متداخلة ولا فصام ما بينها.
ما يغري طفلة بورتوريكو للحياة في أميركا هو الآيس كريم، كجوع، لا الحرية، كسياسة. إنها لا تريد أنْ ترى المخروط إلا كأساً للآيس كريم، وإلا ما قيمة المشعل، بالنسبة لطفلة، إزاء مخروط عملاق للآيس كريم!
يتراجع العامل السياسي في الديمقراطيات الراسخة كلما انشغل ناخب هناك بالتفكير لمن يمكن أنْ يذهب صوته. الحاجات الحياتيَّة هي ما تساعد الناخب أكثر من سواها وترشده لمن يعطي صوته. السياسة شأن الديكة المتصارعة في حلباتها، وقد لا يأتي التفكير فيها، بالنسبة لمواطن عادي، إلا بقدر ما تمس حياته ومستقبله، إلا في اللحظة التي تهدّد فيها القرارات والمواقف السياسية هذين الحياة والمستقبل. هذه هي قيمة الحرية، حرية الناخب في أنْ يكتفي من السياسة بما يؤمّن له قطعته من الآيس كريم.
بحدود مثال طفلة بورتوريكو لا فرق بين الآيس كريم والحرية.
لم تخطئ الطفلة في رؤية حقيقة التمثال ولم يخفق التمثال في التعبير عن مضمونه.
الآيس كريم، بالنسبة لطفلة فقيرة مهاجرة، هو خلاصة حلم الحرية، ما دامت الحرية هي الرغبة بأنْ تشبع ومن ثم هي القدرة على أنْ تشبع فعلاً.