جواد علي كسّار
قرأتُ كغيري مجموعة من الكتابات الرصينة عن النهضة الحسينية، تؤكد اهتمامها الكبير بأهداف النهضة دون غيرها، بما يُشعر بنقدٍ مبطّن للجانب الإحيائي الشعائري. وفي المقابل تمسّكت مجموعة أخرى من الكتابات الجادّة، بالدفاع عن الجانب الإحيائي الشعائري. الحقيقة أن هذا السجال بين الاتجاهين يتجدّد مع المحرّم في كلّ عام، وليس فيه ضير ما دام يمارس الاجتهاد وإبداء الرأي عبر الدليل، وكذلك لأن طرفيه يحرصان على استثمار واقعة الطف، وتوظيف دروسها في الواقع الاجتماعي المباشر.
وما أراه أننا بإزاء حركة واحدة تعمل بمسارين متكاملين. فالنهضة الحسينية انطلقت من مشروع محدّد واضح رسمته وثيقة المدينة؛ ووثيقة المدينة المنوّرة، هي أجمع وثيقة من وثائق النهضة الحسينية حدّدت الإطار والأهداف والمنهج، وهي في حدود متابعتي (ولا أجزم) الوثيقة الوحيدة المكتوبة من وثائق النهضة الحسينية، فقد دعا الإمام سيد الشهداء بدواةٍ وبياض كما تنص المصادر التأريخية، وكتب وصيته التي أودعها أخاه محمد بن الحنفية، من عناصرها:
1 - أني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدّي؛ فالإطار الحركي للنهضة هو الإصلاح، ومداها الإنساني هو أمة الرسول كلها دون استثناء.
2 - ومثلها الأعلى الذي تقتدي به، هو «سيرة جدّي محمد صلى الله عليه وآله وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام».
3 - وأداتها التي تمارس فعلها من خلاله، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».
4 - وميزانها في القبول والرفض هو الحقّ، وليس الشوكة أو العصبية والولاءات النسبية والقبلية: "فمن قبلني بقبول الحقّ، فالله أولى بالحقّ". بإزاء نصوص النهضة وهذا النص في طليعتها، هناك مئات النصوص التي تؤكد أهميّة الجانب الإحيائي الشعائري كالزيارة والرثاء والمآتم، وصلة الوصل بينهما أن الشعائر تجسّد المناسبة وتغمسها في الوجدان والضمير، وتستحضرها من التاريخ لتجعلها واقعاً شاخصاً في الحاضر، لتفسح المجال بعد ذلك لفعل الإصلاح وأهداف المشروع الحسيني.
بتعبير واضح جداً الجانب الإحيائي والشعائري في عاشوراء والأربعين وغيرهما من المحطات، يهيئ الجمهور الحسيني لكي يتصرّف بعد الانتهاء من الشعائر، لبناء حياته على مقاسات النهضة الحسينية، في الدولة العادلة، والمجتمع الرشيد، ويدفعه إلى العمل بالمقاصد العليا للحياة العزيزة الرافهة، القائمة على أساس الإنتاج والبناء، والصحة والتعليم، والقضاء على البطالة، وحماية القرار السيادي، والحفاظ على مقوّمات العزّة.
للشعائر أيامها ومناسباتها المحدودة، وما تبقى من السنة مفتوح للعمل بهذه المقاصد. قراءة وقائع ما بعد 10 محرم 61هـ تكشف لنا بوضوح أن الشعائر هي التي حافظت على النهضة الحسينية، حيّة إلى وقتنا هذا، وإذا شهدنا في حياتنا خللاً وعدم توازن بين الإحياء الشعائري، والمسير العملي في مشروع سيّد الشهداء، فالعلة ليست في الإحياء الشعائري، بل في تعطيلنا الجانب العملي من مقاصد النهضة الحسينية، ومن ثمّ فإن الحلّ لا يكون بإقصاء الشعائر، بل بتفعيل الجانب السلوكي والعملي. هكذا تضعنا الحركة الحسينية أمام مسارين متكاملين، هما الجانب الإحيائي المرتكز إلى الشعائر، ومهمّته استحضار المناسبة والإبقاء على صلتنا حيّة بالمشروع الحسيني، والجانب الآخر هو المسار العملي والوظيفي في السعي لتحقيق مقاصد المشروع الحسيني، عبر التوازن بين المسارين. لقد اجتمع هذان المساران بعد الطف باثنين من آل الحسين، هما علي بن الحسين السجاد وزينب بنت علي، قبل أن تنتقل المهمّة إلى المجتمع منذ لحظة التوابين والمختار الثقفي حتى يومنا هذا.