الاستاذ المساعد الدكتور احمد الحسيني*
لا يزال الحديث الازلي عن الاقتصادات الريعية وبالاخص تلك التي تشكل فيها الموارد النفطية حصة الاسد في تكوين الناتج المحلي الاجمالي وتمويل الموازنة العامة، والعراق حالة خاصة كون تمويل موازنته يعتمد بنسبة اكثر من 93 بالمئة على الايرادات النفطية ويشكل المال النفطي ما نسبته 45 بالمئة من تكوين ناتجه المحلي الاجمالي، وهذا ماجعل الاقتصاد العراقي يعاني من الاختلالات الهيكلية في بنيته الاقتصادية، وانعكس بشكل واضح جدا في اختلال بنية الموازنة العامة، فلو حللنا الموازنة العامة العراقية منذ 2005 وحتى وقتنا الحالي، لوجدنا أن جانب الايرادات العامة يتشكل معظمه الاعم من ايرادات النفط الخام المصدر، الذي يشكل ما نسبته 97 بالمئة من اجمالي الايرادات العامة، وربما يتبادر الى اذهاننا التساؤل الآتي" ماذا لو نضب النفط ؟" تخيلوا معي ياسادتي الكرام، ماذا سيحصل لو اعلن العراق تصدير آخر برميل للنفط في ظل الواقع الحالي؟.
سيكون الاقتصاد معتمدا على موارد غير نفطية تشكل بمجملها في احسن الاحوال ما نسبته 6 % فقط من اجمالي الايرادات العامة، وان الادارة الاقتصادية للبلد تحتاج الى اموال طائلة، تتجاوز هذه النسبة باضعاف مضاعفة، اذا ما هو الحل، وكيف سيتمكن بلد مثل العراق ادارة اقتصاده المتهالك في ظل هذه الظروف؟.
هناك عدة سيناريوهات لادارة أزمة تمويل الموازنة العامة، اذ وكما يعلم الجميع فإن عام 2020 شهد العديد من التحديات وعلى جميع الصعد السياسية" تظاهرات تشرين " وتغيير الحكومة، والصحية " جائحة (كوفيد – 19)، والعلمية التعليم الالكتروني وتحدياته ، والاقتصادية "المخاض العسير لولادة موازنة عام 2020 الغائبة الى الآن" ناهيك عن الاوضاع الامنية غير المستقرة تماما، كل هذه التحديات وغيرها تحتاج الى وضع سيناريوهات ورؤى وحلول سريعة في الامد القصير، ولكن كل الحلول الممكنة تحتاج الى تمويل، بل وساذهب الى ابعد من ذلك" العراق بحاجة الى ادارة التمويل إن صح التعبير"، وهنا يظهر التحدي الذي يكشف لنا عن الوجه الحقيقي للاقتصاد العراقي المستند الى اموال النفط، فبمجرد انخفاض اسعار النفط العالمية بسبب حالة الكساد الناجمة عن تفشي جائحة كورونا وانخفاض الطلب العالمي على النفط الخام العراقي، بدأت الحكومة العراقية بالتلويح بخفض الرواتب وهذا ماحدث فعلا مع شريحة المتقاعدين بحجة عدم كفاية الموارد المالية، وهنا سأتطرق بشكل مقتضب الى بعض السيناريوهات، التي من الممكن ان تلجأ اليها الحكومة العراقية لاجتياز الازمة، مع التنويه الى أن هذه السيناريوهات ليس بالضرورة ان تكون جميعها حلولا ناجعة لتجاوز الازمة الحالية، والتي قد تستمر ارتداداتها لعدة سنوات قادمة، حسب توقعات بعض الخبراء.
1 - السيناريوالاول: وهو ما ذهبت اليه الحكومة العراقية فعلا وهو الاقتراض او الاستدانة الخارجية او كما نسميه في الادبيات الاقتصادية ( الدين العام الخارجي )، فالعراق ينوي اليوم اقتراض مبلغ يقدر بـ ( 5) مليارات دولار لحل مشكلة تمويل العجز المالي في الموازنة العامة، ولكن اذا ماتمت صفقة الاقتراض الخارجي او الداخلي ستسهم بشكل ما في انتشال الموازنة العامة من العجز المالي الحاد، ولكن من المؤكد ان لهذا الاجراء تبعات عديدة وهي بطبيعتها ذات مردود سلبي على الواقع الاقتصادي، ابسطها التبعية لصندوق النقد الدولي (IMF) والرضوخ لشروطه، والبنية الاقتصادية للعراق الآن لا تتحمل الرضوخ لتلك الشروط هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإن عملية الاقتراض الخارجي ستكون لها اثار على المدى المتوسط والطويل تتمثل في مصادرة حق الاجيال القادمة في عملية التنمية الاقتصادية، لان الاجيال القادمة سيكون عليها العمل والانتاج لتسديد الدين العام وخدمة الدين وفوائده وهذا يخلق مشكلة مركبة للاقتصاد العراقي تضاف الى جملة مشكلاته.
2 - السيناريو الثاني: تفعيل الثروة غير النفطية وهي البديل المعطل، قد يستغرب البعض من كلمة المعطل، ولكن هذا هو الواقع، فمن خلال نظرة تفحصية الى جانب الايرادات غير النفطية في الموازنة العامة العراقية، نستطيع ان نستشف ان هذا المورد فعلا معطل، وهناك جهات عديدة لا تريد الخير للعراق مستفيدة من هذا التعطيل، هذا الجانب "المورد غير النفطي" يستطيع أن يعالج معظم الاختلالات البنيوية في هيكل الاقتصاد العراقي، فالزراعة والصناعة والنقل والموارد المائية فقط هذه لو أديرت بطريقة علمية صحيحة وبشفافية عالية كفيلة بان تخرج العراق من خانة الاقتصادات النامية الى منطقة الاقتصادات الصاعدة، كما يحلو لصندوق النقد الدولي تسميتها، ناهيك عن موارد غير نفطية اخرى متمثلة بالسياحة بمختلف انواعها، والضرائب، والرسوم، والتعرفة الجمركية كل هذه الموارد هي شبه معطلة بدليل انها لا تشكل سوى النزر اليسير من تمويل الموازنة العامة وبنسبة لا تتجاوز (6 بالمئة) من اجمالي الايرادات العامة في احسن الاحوال.
فمن غير المنطقي الاستمرار بالاعتماد على المورد النفطي ومن الضروري بل من الضروري جدا الذهاب الى السيناريو الثاني وهو اعادة تفعيل الموارد المالية غير النفطية المعطلة، باعتبارها البديل الاسلم للخروج من الازمة .
• استشاري الازمات المالية والمالية العامة
رئيس قسم العلوم المالية والمصرفية / جامعة دجلة