درس النشيد!

الصفحة الاخيرة 2020/09/04
...

حسن العاني 
ما كان احد مثل اسرتي ينتظر تخرجي من الإعدادية حتى أكون عوناً لحاجتها، ومنقذاً لها من الفقر، و.. ونلت الشهادة يوم السبت ظهراً عام 1962، ويوم الاحد صباحاً بدأت رحلة البحث عن أي عمل او وظيفة او منفذ فيه راتب او أجور ولو بضعة دنانير كما هو شأن الفقراء في العراق منذ قيام دولتهم قبل مئة سنة! 
على مدى سنتين متواصلتين وانا اسأل واتوسط واشارك في امتحانات وابحث وأتنقل من دائرة الى دائرة حتى تهرأ حذائي، ولكن من دون جدوى.. فجأة في عام 1964 يستيقظ ضمير الحكومة ، حيث أعلنت وزارة التربية عن افتتاح (دورة تربوية) خاصة بخريجي الاعداديات، امدها (سنة دراسية واحدة- أي تسعة اشهر) يحصل الخريج بعدها على وظيفة معلم.. وساورني الاعتقاد يومها ان الحكومة اقامت هذه الدورة اكراماً لي ولحاجة اسرتي!
الغريب في امر هذه الدورة انها لم تضع لنا عدداً مقبولاً من الدروس، كأن يكون ستة او سبعة او ثمانية كما هو الحال على أيام دراستنا في الابتدائية والمتوسطة والاعدادية ، وانما وضعت لنا عدداً لا يحصى ولا يعد، وجميع هذه المواد تخضع الى عنوان واحد هو ( أصول تدريس او تعليم) على غرار أصول تدريس الحساب، الاملاء، الجغرافية، القواعد، الوطنية، التاريخ، الانشاء، القراءة العربية ، التربية الدينية، الرياضة، العلوم، التربية الفنية، القراءة الخلدونية.. الخ، وغير ذلك كانت لدينا دروس تتعلق بعلم الاجتماع وعلم النفس، وعلم نفس الطفل، وعلوم التربية والإدارة المدرسية!
اعتقد ان المادة التي استحوذت على حبنا قبل اعجابنا هو النشيد او (أصول تدريس النشيد)، وسبب ذلك هو تولي استاذي الكبير، الفنان المبدع الراحل (ياسين الراوي) تدريس هذه المادة، ليس فقط لما تتحلى به شخصيته من سلوك أخلاقي رفيع جعلت منه صديقاً لنا قبل ان يكون استاذاً وانما كذلك لأنه خرج بدرسه ومادته من الاطار التقليدي للأناشيد المدرسية يومها الى افق ارحب وامتع واقرب الى مراهقتنا.. كان يصطحب عوده ويبسط لنا بعض المفاهيم حول مفهوم اللحن مثلاً والايقاع والحروف الموسيقية ، ولم يكن ذلك يستغرق اكثر من دقائق، وما يتبقى فهو من نصيب الغناء لأشهر المطربين والمطربات، ونحن نردد الاغنية بصورة جماعية وكأننا فرقة كورس محترفة!
بعد 14 سنة على أيام الطرب، وقد غزاني الشيب مبكراً، كنت اجري لقاء صحفياً مع استاذي الراوي لصالح جريدة العراق، وكان بما أُوتي من ادب جم يخاطبني بمفردة (أستاذ) فاعترضت عليه بلطف وقلت له (انت استاذي فعلاً) واعدت الى ذاكرته أيام الدورة التربوية.. نظر الي مندهشاً حتى اذا تيقن من صحة المعلومة قال: [ارجوك لا اريد ان يعرف احد بانني درستك قبل 14 سنة، فانت بشعرك الأبيض تبدو وكأنك عاصرت فيصل الأول ، و هذا يعني انني عاصرت الوالي العثماني] ضحكنا طويلاً وشعرت بالسعادة وانا اقبل يده فقد كان رحمه الله عنواناً عراقياً رائعاً من الإنسانية والإبداع..