ألبير كامو: عن مسؤولية الفنان

ثقافة 2020/09/05
...

ترجمة: جمال جمعة
 
عند الصلاة، كان ثمة رجل حكيم من الشرق يتضرع دائمًا إلى إلهه ليجنبه العيش في أوقاتٍ ممتعة. بما أننا لسنا حكماء، فإن إلهنا لم يجنّبنا ذلك، لأننا نعيش في أوقات ممتعة. على أي حال، فإن عصرنا يرفض السماح لنا بتجاهله. كتّاب اليوم يعرفون هذا بالفعل. إذا تحدثوا، يتعرضون للانتقاد والهجوم على الفور. وإذا ظلوا صامتين بدافع التواضع، فلن يتحدث أحد أبدًا عن أي شيء سوى صمتهم، ليوبّخهم بغلظة. 
وسط هذا الضجيج الصاخب، لم يعد بإمكان الكتّاب أن يأملوا في الوقوف على الهامش متفرجين لمتابعة الأفكار والتأملات التي يعتزون بها. حتى الآن، كان من الممكن إلى حد ما البقاء منفصلين عن التاريخ. يمكن لأي شخص لا يتفق مع الأحداث أن يظل صامتًا أو يتحدث عن أشياء أخرى. اليوم، تغير كل شيء: الصمت نفسه اتخذ معنىً هائلاً. تم اعتبار اللحظة التي تبقى فيها منفصلاً خيارًا، وتُعاقب أو تُمتدح على هذا الأساس، أصبح الفنانون، سواء أحبوا ذلك أم لا، متورطين. 
وفي هذا، تبدو لي الكلمة المعنية أكثر دقة من مجرد الالتزام. في الواقع، لا يتعلق الأمر فقط بالتزام الفنان الطوعي، بل بالأحرى خدمة عسكرية إجبارية. جميع الفنانين اليوم صعدوا على متن السفينة. 
يجب أن يكيّفوا أنفسهم لهذه الحقيقة، حتى ولو شعروا بأن سفينتهم تفوح منها رائحة السمك المتعفّن، وأن هناك بالفعل العديد جداً من المشرفين المستبدين، والأكثر من ذلك، أنهم في طريقهم إلى الانحراف عن مسارهم. نحن هائمون على غير هدى في البحار المفتوحة. يجب على الفنانين، مثل أي شخص آخر، أن يحملوا مجاديفهم دون أن يموتوا، إن كان ذلك بالإمكان، أي بكلمة أخرى، من خلال مواصلة العيش والإبداع. 
ولكي أقول الحقيقة، هذا ليس بالأمر الهين، ويمكنني أن أفهم كيف يمكن أن يخسر الفنانون حياتهم المريحة السابقة. التغيير قد يكون قاسياً إلى حد ما. بالطبع، في مُدرّج التاريخ، كان هنالك دائمًا شهداء وأُسُود. تم منح الشهداء القوة بفكرة التمجيد الأبدي، والأُسود بعلَفٍ تاريخي دموي 
للغاية. 
لكن حتى ذلك الحين ظل الفنانون دائمًا على الهامش متفرجين. لقد غنّوا بلا سبب، من أجل متعتهم الشخصية، أو في أحسن الأحوال لتشجيع الشهيد ومحاولة صرف انتباه الأسد عن فريسته. أما الآن، فعلى العكس من ذلك، وجد الفنانون أنفسهم محاصرين داخل المُدرّج. وبطبيعة الحال لم تعد أصواتهم كما هي: لقد أصبحت أقل ثقة
بكثير.
من السهل رؤية أي فن معرّض لخطر الفقدان في مثل هذا التورط المتواصل: رفاهيتهم السابقة، بشكل أساسي، وتلك الحرية الإلهية التي تعيش وتتنفس في أعمال موزارت. يمكننا الآن أن نفهم بشكل أفضل المناخ المعذَّب والعنيد لأعمالنا الفنية، جبينها المقطّب، وهزائمها 
المفاجئة.
وهكذا، نقول لأنفسنا أننا نفهم أن هذا هو سبب وجود عدد من الصحفيين أكثر من الأدباء، ورسامين هواة أكثر من سيزان، ولماذا حل أدب الأطفال وجرائم القتل الغامضة محل (الحرب والسلام) لتولستوي أو (صومعة بارما) لستاندال. بالطبع، يمكننا دائمًا التصدي لهذا الوضع برثاء إنساني، لنصبح ما أراد ستيفان تروفيموفيتش باستماتة أن يرمز إليه في (شياطين) دوستويفسكي: التوبيخ متجسدًا. وتماماً مثل هذه الشخصية، قد نشهد أيضًا نوبات من اليأس المدني. لكن هذا اليأس لن يغير شيئًا عما يحدث في الواقع. 
سيكون من الأفضل بكثير، في رأيي، المشاركة في عصرنا، لأن عصرنا يستصرخنا لفعل ذلك، وبصوت عالٍ تماماً، في أن نتقبل بهدوء أن عهد الأساطين المبرَّزين، والفنانين الذين يغرسون زهور الكاميليا في ثنايا صدرياتهم، وعهد نوابغ الكراسي، قد انتهى. أن تبدع اليوم يعني أن تبدع بشكل خطير. كل منشور هو فعل مدروس، وهذا الفعل يجعلنا عرضة لمشاعر قرن لا يغفر شيئًا. ومن ثم، فإن السؤال ليس معرفة ما إذا كان القيام بفعل يضرّ بالفن أم لا. السؤال، لكل من لا يستطيع الحياة بدون الفن وكل دلالاته، هو ببساطة أن يعرف ـ في ضوء الضوابط الصارمة لأيديولوجيات لا تعد ولا تحصى (طوائف لا حصر لها، يا لها من عزلة!) ـ كيف تظل حرية الخلق الغامضة ممكنة. 
في هذا الصدد، لا يكفي أن نقول ببساطة إن الفن مهدد من قبل سلطات الدولة. في الحقيقة، في هذه الحالة، ستكون المشكلة بسيطة: سيكون على الفنان إما أن يقاتل أو يستسلم. لكن المشكلة أكثر تعقيدًا، إنها مسألة حياة أو موت أيضًا، في اللحظة التي نفهم فيها أن المعركة تدور رحاها داخل الفنانين أنفسهم. 
إن كراهية الفن، التي لها العديد من الأمثلة الرائعة في مجتمعنا، تزدهر اليوم بشكل جيد وذلك فقط لأن الفنانين أنفسهم أبقوها حية. 
الفنانون الذين سبقونا كانت لديهم شكوك، لكن ما شكّوا فيه هو موهبتهم الخاصة. الفنانون اليوم يشكّون فيما إذا كان فنهم، ومن ثم وجودهم، ضروريًا. إن راسين كان ليعتذر عن كتابته مسرحية (بيرينيس) بدلاً من القتال من أجل “مرسوم نانت”* لو كان حياً اليوم. 
إن إعادة تقييم الفن من قبل الفنانين له أسباب عدة، لكننا فقط سنأخذ بنظر الاعتبار أكثرها أهمية. في أفضل السيناريوهات، يتم تفسير ذلك من خلال الانطباع الذي قد يشعر به الفنانون المعاصرون بأنهم يكذبون أو يتحدثون من دون سبب إذا لم يأخذوا في نظر الاعتبار أحداث التاريخ. ما يميز عصرنا، في الواقع، هو التوتر بين الأذواق المعاصرة ونهوض الجماهير الفقيرة. 
نحن نعلم بأنها موجودة، فيما كنا نميل في السابق إلى تجاهلها. وإذا كنا على دراية بها، فليس ذلك لأن النُخَب، النُخب الفنية أو غيرها قد أصبحت أفضل. كلا، فلنكن واضحين بشأن ذلك ـ ذلك لأن الجماهير أصبحت أقوى ولن تسمح لنا بنسيانها. 
ثمة أسباب أخرى لهذا التنازل عن المسؤولية أيضًا، بعضها أقل نبلاً. ولكن مهما كانت الأسباب، فإنها تسهم في الهدف نفسه: تثبيط النشاط الإبداعي الحر من خلال مهاجمة جوهره الأساسي، والذي هو ثقة الفنان المبدع بنفسه. 
فكما عبر عنه إمرسون بشكل رائع: “إن طاعة الإنسان لعبقريته الخاصة هو التعريف النهائي للإيمان”، وكما أضاف كاتب أميركي آخر من القرن التاسع عشر: “طالما بقي الإنسان مخلصًا لنفسه، فإن كل شيء سيعمل لصالحه: الحكومة، المجتمع، وحتى الشمس والقمر والنجوم”. مثل هذا التفاؤل الهائل يبدو ميتًا اليوم. الفنانون، في معظم الحالات، خجلون من أنفسهم وامتيازاتهم، إذا كان لديهم أي منها. والأكثر أهمية، هو أنهم ينبغي أن يجيبوا عن السؤال الذي يطرحونه على أنفسهم: هل الفن رفاهية كاذبة؟
عن Literary Hub ، * مرسوم نانت: هو مرسوم يحث على التسامح الديني، سنّه هنري الرابع ملك فرنسا عام 1598. سمّي هذا المرسوم كذلك نسبة إلى المدينة الفرنسية (نانت)، وأُلغي من قبل الملك لويس الرابع عشر سنة 1685. 
جان راسين: (1639 ـ 1699) من الكتاب المسرحيين الرئيسين في الأدب الفرنسي، نشط خلال عصر الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا الذي ألغى هذا المرسوم.