لا نتصور أنَّ هذين المصطلحين يقتصران على العمليات العسكرية، وطرائق المناورة بين جيشين أو فريقين متنازعين، فالكثير من المصطلحات تنتج في حقول معينة وتكون دلالاتها شاملة لحقول أخرى، مثل الهرمينوطيقيا، كانت تفسير النصوص الدينية، ولكنها أصبحت اليوم مدرسة للتأويل وفلسفة للظاهراتية، وشملت حقولاً لا حدّ لحضورها في ميادين اشتغال الفلسفة والعلوم والحياة اليومية والنصوص الأدبية وغيرها، فقد أنزل دو سارتو الستراتيجية والتكتيك من حقلهما العسكري إلى حقول عديدة منها حقل الحياة اليومية، ونحاول أنْ نعمم مفاهيميهما في حقول الاستعارة والتشبيه، وهما من ميادين تنوع وتوسع مدلول المسرود. فالستراتيجية هي الخطط التي توضع لخوض تجربة، بينما التكتيك هو التغيرات التي تصاحب تنفيذ هذه الخطط، وبدون الدخول في التفاصيل التي تضيف لهذين المفهومين أو لتوسع من دلالتهما، نقول إنَّ أي عمل فني أو ثقافي او حتى الذهاب إلى التسوق لا بدَّ أنْ يكون موضوعًا ضمن هدف ستراتيجي مطلوب تحققه على خطوات، ستكون الخطوات تكتيكية لتحقيقه أو أحياناً تقف عاجزة عن التحقيق. ففي ميدان التشبيه، وهو ميدان واسع في العملية الإبداعية والثقافة والاجتماعية، نجد المصطلحين في المجال الثقافي يتحركان بين الواقع والوهم كما يقول عبد السلام بنعبد العالي، فيشتبهان علينا ،أنهما استراتيجية لخلق التشبيهات، التي "هي تشبّه بجعل الواقع يكف عن أنْ يكون واقعًا ليتفوق نفسه ويغدوا "واقعًا فائقًا" "من إنتاج نماذج مموهة داخل فضاء لا مرجعية ولا محيط خارجياً له" سيميولوجيا الحياة اليومية، ص24.
الستراتيجية كما يخلص دو سارتو هي مكانك الخاص، بينما التكتيكية هي مكان الآخر،" ليس للتكتيكية من مكان سوى مكان الآخر" اما الستراتيجية فهي" علم السلوكات الحربية خارج مجال الرؤية للعدو؛ والتكتيكية هي داخل هذا المجال" ص 94. ابتكار الحياة اليومية.
كل رواية مهما كان نوعها هي ثيمة بوليسية، أبدًا لا يصح أن يقال غير ذلك، بالرغم من أنَّ الرواية التي تشتغل عليها ليس رواية بوليسية. والسبب أنَّ كل عمل روائي، فني، شعري، تشكيلي، مسرحي، يقوم على حدث يتطلب تحقيقًا كما يقول تودوروف، التحقيق هو المسرود الفني، هو الفنية، أي التكتيك، الذي سيقوم به الروائي عبر الكشف عن ملابسات الحدث وفق ما يتصوره عنه، فيوظف له شخصيات ومعلومات وأساليب، وتنظيم، إنَّ الحدث هو الفعل الذي يجري على الواقع.
ينقسم الكلام المسرود الروائي إلى كلامين: كلام يصف الحدث، يسمى "كلام الحدث" وهو ما يصف ما حدث وحيثياته، اي الستراتيج، وهو من اختصاص الآخر، وكلام يسرد كيفية حدوث الحدث فنيًا ويسمى "كلام المسرود" وهو الفنية التي تعني أساليب النص أي التكيتك. الستراتيج من اختصاص الحدث، أما التكتيك فمن اختصاص المؤلف. فـ "الرواية بحث"، كما تقول فرجينيا وولف، من جانبين: كلام الحدث يعنى بكيفية حدوثه واقعيًا، أما الكلام المسرود فهو البحث، الذي يعنى بالكيفية التي يصوغ المؤلف بها حدث روائيًا.
لن أثير هنا، بعد اتساع دور المكان في التأويل والحركة والتغيير، وهو ميدان كان متاحًا للأدب الاشتغال عليه، لأنَّ أي صنف من صنوف الإبداع كانت تتعامل مع المكان تعاملا ستراتيجيا بوصفه آخر، أو جزءًا من الآخر، فالمقهى جزءٌ من الشارع أو المنطقة، وهما معًا جزءٌ من المدينة، بينما الستراتيجية هي لما حدث في المقهى أي أنْ تجعل المقهى مكاناً خارجياً من خصوصية الآخر، بينما في العمل الفني أنْ تجعل المقهى مكانك الخاص، عندئد يكون الكلام فيها كلامك عنها، وتدخل المقهى ليس بوصفه مكانًا خارجيًا تابعًا للآخر، بل بوصفه مكانك الذي خلقته لنصك، حتى لو كان اسمه مقهى حسن عجمي أو البرلمان أو أم كلثوم، أو مقهى المعقدين. وهذه ميزة االتكتيكية عندما تحول العام إلى خاص كي تتمكن من التغلغل في بنية المكان ومعرفة شعابه وتفصيلاته، والكيفية التي تألف منها. في الامكنة الخاصة، امكنة نصك الإبداعي يمكنك أنْ تبني عشرات الأمكنة التي تتخيلها، وقد تستعيرها من نصوص أخرى، ما دمت قد اكتشفت آلية تشكّلها، كل الأمكنة المعطاة واقعيًا جثث جامدة، ما أنْ تدخلها نصك الخاص حتى تصبح أمكنتك الفنية، عندئذ تتحول الستراتيجيات العامة، إلى تكتيكات فنية يمكنها أنْ تجعل أمكنتك الخاصة حقولاً إنتاجيَّة.