البصرة / صفاء ذياب
"إذا كان العقل جوهرة الإنسان، فإن الخيال جوهرة العقل، معدنه المشعّ ونبعه الذي لا ينضب أو يجفّ". بهذه الفكرة الجامحة، افتتح القاص والروائي الدكتور لؤي حمزة عباس ورقته التي قرأها في الجلسة الاحتفالية التي أقامها التجمع الثقافي العراقي الحديث، بالتعاون مع قصر الثقافة والفنون في البصرة، وقدّمها الشاعر طالب عبد العزيز، بمناسبة صدور مجموعته القصصية الجديدة (مرويات الذئب)، وأضاف عباس: الخيال كلمة السحر، مفتاحه الذي لا يصدأ، وباب المجاز الذي يُخبئ خلفه ألف باب، ليس الخيالُ نقيضَ الواقع، ولا ندٌ له، إنه الضوء الذي نستكشف بوساطته طبقات الواقع لنعرف بعض ما يُخبئ من خفايا وأسرار.. من هنا كان على القصة القصيرة التي أكتبها أن تمضي، بعد ست مدوناتٍ قصصية، صوب مفاوز الخيال وسماواته الرفيعة الواسعة.
هذه الكلمة، جاءت بعد فعاليات عدّة قُدّمت في الجلسة، ابتدأها المخرج كاظم حسين، بعد عرضه لفيلم قصير عن هذه المجموعة القصصية وعن آخر إصدارات عباس.
وكان الورقة النقدية الأولى للقاص محمد خضير الذي أشار إلى اننا لسنا هنا بصدد هذا النوع العام من الكتابة السردية، إنما نعرض للقصة باعتبارها برهاناً وليست حرفة. ماذا نعني هنا بالبرهان القصصي؟ على ماذا تبرهن مجموعة (مرويات الذئب) ولماذا نتخذها تجلياً صريحاً لمفهومنا عن الكتابة السردية؟ حينما تكون القصة نصاً عارفاً بنفسه، فإننا نبرهن بذلك على الانهمام الذاتي بجوهر العالم الذي نقص عنه وله في الوقت نفسه، وحين تتجلى حقيقة هذا البرهان تتراجع سلطة القاص على نصه، ويصبح وجهاً من وجوه عديدة تنعكس على مرايا النص. هنا لا ننظر للعالم بعين العقل المجرد أو الحقيقة التاريخية وإنما ننظر إليه بعين الخيال، هذا الخيال الجموح الذي يعبر أمامنا كما يبدو مثل ذئب على رصيف، أو صورة أو نقش على حجر.كل نص قصصي هو برهان بحد ذاته، مبني في هذا الكتاب بعناية فائقة، وكلما أصبح العالم واسعاً وكبيراً صار البرهان عليه قصيراً وذرياً بالغ الصغر، وكلما كان العالم قاسياً وهجومياً، غدا برهانه خفيفاً غير مرئي، أو نقشاً على خاتم، ومثل هذا الانهمام ببناء العالم يحتاج السرد إلى برهان متعدد الجوانب مصوراً بمشاهد طبيعية غير مألوفة، وممهور بعلامة مثل علامة الذئب التي ستسيطر على أغلب المرويات.
من جهته، تحدّث الأستاذ الدكتور ضياء الثامري عن تجربة عباس بشكل عام، وعن عمله في هذه المجموعة، قائلاً إن الحديث عن (مرويات الذئب) بعيداً عن منجز عباس السابق يكون منقوصاً، إذ إن هذا العمل يأتي مكملاً ومنسجما مع أعمال سبق لهذا الكاتب المثابر والدؤوب أن قدمها، وأنا أتحدث هنا على وجه الخصوص عن التجريب والبحث عن أشكال تعبيرية جديدة داخل النص السردي بصورة عامة بعيداً عن التوصيف النوعي.
وكشف الثامري أن نصوص المجموعة تبدو كابوسية غارقة في خيال بعيد، سابحة في لا منطقية تكرّس بعدها الفنتازي بقوة، ولكن الأمر اللافت هنا هو اشتراك هذه النصوص بمشتركات أساسية على مستوى الموضوع حتى بدا بعضها يشير إلى البعض الآخر وكأننا أمام فصول رواية من نوع خاص تبدو أقرب إلى اللامعقول، إنها رواية الذئب، فما الرواية إلا مجموعة مرويات. كائنات النصوص سابحة في عالم خيالي ولا معقول، أو إنها قادمة من عالم اللامعقول وبأشكال لا معقولة (طفل الماء، العين، عين الجندي، قنديل البحر) وغير ذلك من الكائنات السردية التي حفلت بها المجموعة.
أما الناقد أحمد ثامر جهاد، فيرى أنه في مرويات الذئب تصف الذات نفسها وهي تتخفى وراء الصور والرغبات والمرايا والوجوه التي تشير في جانب من جوانبها إلى العلاقة الشائكة بين جواهر الأشياء ومظاهرها. فلا الذئب يبدو ذئباً ولا الأحلام تبدو أحلاماً، فيما تكتنف الخيالات القصصية غرابة جارحة تبرهن مرة بعد أخرى على انشغال الكاتب باستكشاف الصلة الحميمة بين التجربة والخيال، إذ تصبح كل حكاية خيالية واقعة حقيقية إذا ما انفعلنا بها وتشاركنا بصدق معاناة أبطالها ومصائرهم الغريبة المفجعة..