{بلدوزر» من حكايات الانشطار العراقي

ثقافة 2019/01/08
...

خضير فليح الزيدي
باص طويل من نوع ريم الحرب. يقف سائقها بدشداشته المتسخة، في كراج كركوك الموحد ويصيح (بغداد..بغداد.. بغداد نفرين بغداد.) بعد دقائق ينطلق الباص في الليل البهيم من كركوك إلى بغداد. محملا بجنود الحرب المجازين. الجنود فرحون في موسم الإجازات كالعادة الشهرية. الجنود الكئيبون في الالتحاق. في كل سيطرة يتحسسون بيرياتهم السود فوق رؤوسهم، بينما النسور الفضية تتأرجح ونماذج الإجازات المختومة ترتجف من الخوف. 
في سنة 1984 وفي شهر نيسان يتهادى الباص في ساعة متأخرة من الليل. على صوت سعدي الحلي (حبيبي أمك متقبل من احاجيك.. روحي معلكة بيك). كان الجنودُ يلفون رؤوسهم بالخاوليات الملونة، يدخنون بشراهة سجائر سومر. يتماهون مع تلك الأغنية التي تحولت إلى نشيد وطني أو ربما سمفونية الجبهات الموحدة  في الحزن الأسود والآن في فضاء هذا باص ريم الحرب. 
رزاق الجندي المجاز من الناصرية، هو مملوحُ البشرة والطالع، كان مغمّسا بالطيبة وثرثرة الفرح الجميل طافحة على وجهه. يجلس في المقعد الوسطي من صف الكراسي الخمسة الأخيرة. يحلم بالوصول صباحا إلى بيته ليتزوج من ابنة العم في تلك الإجازة. كان فرحا فقط، ولفرط فرحته راح يغني بطريقته الخاصة. يجيد الغناء بطور داخل حسن ببحّته المعروفة كالختم، يقلده بكسر الآهات في الصوت ويلحقها (يمه يا يمه أحا يا نار قلبي)، مقلدا صوت ايقونة الحزن اللذيذ. يغني لصفوة من الجند الذي يقيمون صلاتهم الموحدة مترنمين معه ببستة (حن يا دليلي). رزاق الجندي المكلف بخدمة الاحتياط يغني ويبكي معا. يغني لحبيبته ويبكي على مصيره المجهول في ظل حرب القاطع الأول في بنجوين.
يذكر لي أحد الجنود هذه الحادثة في ظل المقهى وعلى رنة استكان الشاي، ومعها لازمة "ها يابه" يقول أنه سمعها من ابن عمه، والأخير سمعها في وحدته العسكرية من النائب الضابط الحكاء، والأخير سمعها من ابن خالته المعاق. والأخير كان أحد الجالسين في باص الجنود السائر في تلك الليلة. يقول وهو هنا الراوي العليم بشؤون المعسكرات:
بعد ساعة من الغناء وحكايات الجبهات، يخمد الجنود بعد أن خلعوا البساطيل ودبت رائحة الجواريب المخدرة. تمدد بعضهم في الممر الطويل حالمين بأحضان دافئة وتركوا مجلة الف باء مفتوحة على صورة حسناء العدد.
يتحول الطريق وينحرف إلى ممر واحد قرب قضاء الطوز، ثمة شاحنة عسكرية في الاتجاه الآخر تحمل بلدوزا مسننا يزحف رويدا رويدا مع كل طسة طريق عن سطح الشاحنة لينزاح عنها. يصل سعدي الحلي إلى مقطع مؤثر آخر " روحي فدوة لمك"، تكشر أسنان البلدوز المجنزر لابتلاع الجنود المجازين وهم غافون في أمان الله وبلحظة مأساوية تقطع الريم إلى نصفين برمشة عين.
 نصفان متساويان، نصف سليم ونصف ممزق، ينجو النصف الذي يجلس في الجهة المقابلة لجهة السائق. يحز الرفش المسنن الرؤوس ويخلع الأحلام عنوة عنها، وتبقى الأجساد غافيةَ على الكراسي. 
ينقطع سعدي الحلي عن غناء قبل أن يتم أغنيته، بعد أن قبلت الأم وغدت (حبيبي أمك تقبل وتهلهل أن احاجيك الآن). لكن رزاق جندي الحلم المبتور ما زال يغني بطور داخل حسن حتى تحين الساعة. تلك حكاية أرويها شفاهة ولكني لا استطيع كتابتها حتى هذه اللحظة مثلما يحلم النائب الضابط، ذلك الراوي العليم في نظام الشفاهة عن ابن خاله المعاق.