حملت رواية "لحياة غير مكتوبة" للكاتب نعيم آل مسافر الكثير من القضايا الثقافيَّة، فمثلا التناص، أو التّعالق النصي، هومصطلح نقدي يقصد به وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص، وهو مصطلح صاغته جوليا كريستيفا للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى، وتشمل العلاقات التّناصية إعادة الترتيب، والإيماء، أو التلميح المتعلق بالموضوع، أو البنية والتحويل والمحاكاة،.. اذن التناص عبارة عن (تشكيل نص جديد من نصوص سابقة وخلاصة لنصوص تماهت فيما بينها فلم يبق منها إلاّ الأثر، ولا يمكن إلا للقارئ النموذجي أن يكتشف الأصل، فهو الدّخول في علاقة مع نصوص بطرق مختلفة يتفاعل بواسطتها النص مع الماضي والحاضر والمستقبل وتفاعله مع القراء
والنصوص الأخرى)، والكاتب آل مسافر تناص مع كتابات كافكا وخاصة روايته "المسخ"، التي اعتبرت من الادب العبثي، ولاسيما شخصية "غريغور"، حيث تمثل بطل رواية آل مسافر من خلال التقمص لشخصية رواية كافكا، والتقمص بطبيعة الحال قضية نفسية، كما نعرف، واعتقد ان الكاتب المهم "والت ويتمان" قد كتب شعراً يتعلق بقوة بظاهرة التقمص من خلال كلماته:(ماذا تظنين حدث للذين مضوا، الشبان منهم و الكهول ؟ إنهم أحياء في مكان ما... كل ذرة في الوجود تصرخ: ما نسميه الموت باطل! وغير موجود... و إذا ما وجد، فإنه يقود إلى حياة جديدة..).
وهنا فان التقمص هو الاعتقاد بأنَّ شخصا ما عندما مات تحلل جسده ولكن روحه، قد أعيدت ولادتها في جسد آخر، وهو اعتقاد بأن شخص ما قد عاش من قبل وسوف يعيش مجدداً في جسد آخر بعد موت الجسد الأول، وهذه الروح تمر عبر الأجساد، او ان التقمص هو انتقال فكرة اوحالة معينة، ومن معاني التقمص التناسخ وهو انتقال النفس الناطقة من بدن إلى بدن آخر من غير تخلل زمان بين تعلقها بالاول وتعلقها بالثاني، والتناسخ عقيدة شاعت بين الهنود وغيرهم من الأمم القديمة، مؤداها: أن روح الميت تنتقل إلى وجود أعلى أو أدنى لتنعّم أو تعذّب جزاءً على سلوك صاحبها الذي مات، وهذا يعني أن نفس واحدة تتناسخها أبدان مختلفة إنسانية كانت أو حيوانة أو نباتية أو حتى جمادات، ويعتقد بأن الغرض من هذا التناسخ امتحان النفس، حتى تكتسب بذلك ما ينقصها من الكمال وتصبح مجردة من التعلق بالأبدان.
فاستغل الكاتب آل مسافر هذا الامر، ليقود لنا قضية اجتماعية مهمة، الا وهي صراع الاجيال، وصراع الأجيال ظاهرة اجتماعية ثقافية تعيشها جل المجتمعات، وهوعبارة عن صراع أيديولوجي بين جيلين اثنين: جيل قديم راديكالي ومحافظ وجيل جديد يدعو إلى الحداثة والمعاصرة، ومن المؤكد إن الأجيال تتوالد والسلف يورث الخلف عاداته وتقاليده ومعتقداته وقيمه، فإيقاع الحياة هوالمختلف، فالخلاف هوخلاف طبيعي ضمن سياق التطور الاجتماعي، فصراع الأجيال قضية مجتمعية مهمة، لأنها قد تضعف العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة نتيجة للتباينات والاختلافات في الآراء والمواقف ووجهات النظر، وتُضعف من كيان الأسرة، وهذا الصراع عند علماءِ التربية، والاجتماع، وعلم النفس، هو: الاختلافُ في الرؤى بين الجيلين الشباب والكبار، واضطرابُ العَلاقة بين الآباء والأبناء، وتأزُّمها، فالأبناء يتَّهِمون الآباء بأنهم لايَفهَمون، وأنهم متأخِّرون عن إيقاع العصر، ويَصِفونَهم بالمتزمِّتين والمتشددين، وهذا ما لاحظناه في رواية "لحياة غير مكتوبة"، بين الابن الشغوف بقراءة القصص والروايات، وبين الاب المعلم المتقاعد الحريص على مستقبل ابنه الوحيد، فكان الاب يحاصر الابن لاجل الدراسة والتحصيل العلمي، لكن شغف الابن بقراءة الروايات خلق منه شخصية منعزلة منطوية.
هذه القضايا من ثقافية ونفسية واجتماعية حملتها الرواية، وبقيت في اجواءها، وبقيت شخصياتها تعاني القلق والصراع، باحثة عن ذاتها، وباحثة عن الحقيقة، وتناول الكاتب شخصية ضامر وصراعها النفسي، ومن خلالها ناقش قضية المثلية الجنسية بطريقة روائية فنية بعيدة عن الطروحات العلمية، واثناء طرح هذه القضية، كان يطرح نقودات لظواهر سياسية واجتماعية واقتصادية، واستمر في حالات التناص مستثمرا اشياء المكان، مثلا لوحة الموناليزا المعلقة على الحائط، ونص الرواية تقول: (فان موناليزته هي لاذكر ولاانثى، انها التحام بين الاثنين، وهي رسالة اراد دافنشي من خلالها الاشارة الى الجنسين في آنٍ معاً)، وكذا بقيت اثار كافكا تسيطر على الفصل الثاني من الرواية، (بدا لنا الامر ناجح من البداية، عندما سمّاني زوجي (أنّا) على اسم المربية التي كانت في بيت كافكا)، والكاتب آل مسافر لم يغفل قضية التذكر والاسترجاع من خلال تحولات البطل من الفصل الاول الى الثاني الى الثالث بصور تبدو لاول وهلة يشوبها الغموض، لكن حين التمعن بين الاسطر يكتشف المتلقي، ما يقصده الكاتب..
والحصيلة ان الرواية عبارة عن صرخة مدوية، صرخة تسمع الكون صوتها، إنها تصرخ بأن الإنسان موجود على هذه الأرض، وهو يعاني من العدم، يعاني من فكرة الموت، وأيضا يعاني أنه موجود على هذه الأرض، ولايعرف ما الذي يفعله في حياته، وصرخة ضد تفاهة الحياة ومللها وضد الظلام، الذي يأكل كل جميل في حياته، وهشاشة كل المعاني المعطاء، والتي تحاول أن تفسر الحياة، وهكذا استطاعت رواية الكاتب نعيم آل مسافر اثراء المخزون المعرفي للمتلقي، وحاولت كشف النقاب عن تواريخ واحداث صاغها الكاتب، وقدم من خلالها معلومة جديدة للمتلقي، حيث احاطها بمعارف مفيدة..