صدر حديثا عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود في الرباط وبيروت كتاب الدكتور رسول محمد رسول (فتنة الإسلاف.. هايدغر قارئاً كانط) ضمن سلسلة التأويليات التي يشرف عليها الدكتور محمد أبو هاشم محجوب من تونس، وهو الكتاب الثاني الذي ينشره المؤلف عن فلسفة
مارتن هايدغر.
يأخذنا هذا الكتاب - بكُل مباحثه وفصوله - إلى عوالِم تواصليّة مارتن هيدغر مع خطاب سلفه إمانويل كانط؛ ويدعونا إلى دروب قراءته الفلسفيّة لذلك الخطاب، فكيفَ يقرأ هيدغر أسلافه؟ بمعنى حصري أدق: كيف قرأ هيدغر خطاب سلفه كانط؟
لمّا كانت القراءة تنهض على الشرح والتفسير والتأويل، فإن هيدغر سيفرِّق في هذه الدرب بين الهرمينوطيقا (Hermeneutik) والتأويل (Interpretation)، وقد حرص على استخدام هذا المصطلح الأخير برسمه اللاتيني، وبذلك ربما كان هيدغر أول فيلسوف يتخطَّى التقليد الفلسفي في ألمانيا
وخارجها.
عند هيدغر ليست الهرمينوطيقا فلسفة إنّما هي تجربة الموجود مع ذاته، أمّا التأويل فهو تجربة الموجود مع غيره؛ فعبر الهرمينوطيقا يصبح الموجود مُتاحاً لنفسه، ولا توجد وقائع في حدِّ ذاتها إلّا ضمن حدث مُعين، وحدوث الشيء يعني يقظة ذلك الشيء، وتلك اليقظة إنما هي البُعد الهرمينوطيقي للأشياء أو الموجودات، لا توجد هرمينوطيقا من دون يقظة الأشياء، ولا يوجد إنسان من دون يقظة يتعرَّف بها على كينونته وذاته، وإذا كان التأويل تجربة الموجود مع غيره، فإنه، وعبر هذا التأويل أيضاً، يصبح الموجود متاحاً لغيره؛ بل وغيره كذلك متاح له أيضاً؛ لأن التأويل يقظة الإنسان على ذاته وغيره.
لقد جعل هيدغر من خطاب سلفه كانط كينونة معرفيَّة مُتاحة للقراءة، فأظهر يقظة بها ليصوّبها حتى صيَّرها كينونة معرفيَّة متاحة للقراءة التأويليّة؛ بل للقراءة التأويليّة الاستثنائيّة كما يُخصِّص ذلك في قراءاته، وخطاب كانط المقروء كان في حدِّ ذاته يقظة، أما قراءة هيدغر له فهي يقظة أخرى؛ يقظة تالية، يقظة مُضاعفة؛ وذلك عندما جعل هيدغر من المتن الفلسفي الكانطي كينونة معرفية تحت اليد، فانصرف إلى قراءتها تأويلاً بوصفها نصاً (Textinterpretation) ماثلاً أمامه، وبذلك دخلَ هيدغر إلى عوالمها وفق ما يبتغي، وأحياناً وفق ما يهوى؛ فالتأويل ليس سوى ملعبٍ للذات صوب الآخر المتيقِّظ لكينونته ووجوده وخطابه.