في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر 1853 نشر (روزنكرانز)، بحثاً بعنوان (أستطيقا القبح)، ومما ذكره فيه انه اذا دخل القبيح في ميدان الفن، فإنه يأخذ صورة مثالية تمنحه له قوانين الجمال عامة، كالتناسق والانسجام والتناسب وقوة التعبير الفردي.ولقد سبق ان تساءل عميد الادب العربي طه حسين بهذا الصدد فقال: هل يستطيع الفن أن يتخذ الشر موضوعاً ويستخلص منه صوراً فنية وجمالية، أو بمعنى أدق، هل في الشر جمالا يصلح موضوعاً للفن؟: و أقول: ليس في الشر جمال، لكنه يصلح ان يكون موضوعاً في الفن عامة والمسرح خاصة
وبخصوص المسرح أقول: ان للخطاب المسرحي قدرات هائلة في التعبير عن الفوضى والقبح، على وفق اساليب فنية وجمالية تتساوق مع وظيفته الانسانية والتعبيرية، بوصفه فناً يهندس الفوضى، ويخلق من الشر والقبح صوراً طافحة بالجمال والسخرية القائمة على المفارقة، لأن المسرح من الفنون التي تبهج النفس وتشيع الفرح الانساني النبيل لتوفره على مولدات الجمال والمسرة، ولاحتكامه الى الثنائيات الضدية المتجسدة من خلال الصراع الازلي بين الخير والشر، فإذا ما كان الخير يمثل الجمال بوصفه قانوناً في الحياة، ينعكس على الفن، فإن الشر - بالضرورة - يمثل القبح، اي النسق السلبي، الذي يفتقر الى خصائص الشيء الجميل، بمعنى انه يمثل قيمة سلبية، بينما يمثل الخير قيمة ايجابية، لكنها في الفن أشبه بالتيار الكهربائي الذي يكون نتاج قطبين متنافرين السالب والموجب، فيتولد الضوء من خلال
ذلك التنافر.
وهكذا هو الخطاب المسرحي، فمنذ نشأته قد كان نتاجاً للمفاهيم الجمالية كالجمال والجلال والقبح ومولداً لها في الآن نفسه، إذ إن التراجيديا تمثل ذروة التسامي أو الجلال، لأنها وبحسب رأي (أرسطو) محاكاة لفعل جليل، له مدى محدد، ولغة مزينة، وتثير الخوف والشفقة فتنتج المتعة النفسية والجمالية وتحقق التطهير، الذي ينقي النفوس، لكنها في الوقت نفسه تكون حاضنة لما هو قبيح كما أظن، وذلك هو سلوك البطل السلبي اللاواعي الذي قاده الى ارتكاب الخطأ التراجيدي الذي ارتكبه (اوديب) والمتمثل بزواجه من أمه وقتله أباه كما ورد في الاسطورة آنذاك، بوصفها من اهم مرتكزات الدراما الى جانب الطقس الديني.
ولذلك عندما شعر أوديب انه هو سبب الرجس او القبح، الذي عم طيبه فقع عينيه نابذ الفعل القبيح والسلبي الذي ارتكبه ولا يحدث فعل الفقع امام الجمهور لأنه عنيف وقبيح.
وبهذا تحقق التراجيديا القيم الجمالية والانسانية والتربوية والنفسية من جراء معالجة القبح كما اظن، مع يقيني ان القبح في التراجيديا قد استخدم كأداة لتحقيق الجمال الفني والإنساني على الصعيد التأويلي النابه، لكنَّ العنف هو الآخر وسيلة لتحقيق التطهير لدى المتلقي.
أما على صعيد الكوميديا فقد نشأت تمجيدا للذكورة مثلما هي التراجيديا بأستخدام رمزها اله الخصب (ديونيسيوس) عبره الاحتفالات في الشوارع العامة تحقيقا للابتهاج والسعادة والضحك وقد عدها ارسطو وضيعة بمعنى قبيحة، لأنها تحاكي الافعال الوضيعة عكس الافعال الجليلة في التراجيديا، فقال: ليس بمعنى وضاعت الخلق، بل ان المضحك نوع من القبيح، لكن لها معايير جمالية وان الترويح في الكوميديا يقابل التطهير في التراجيديا واهم ما فيها انها تهكمية تستهدف النقد بقصد التغيير، اذاً الكوميديا ترصد الافعال القبيحة، فهي اذاً فعل تمثيلي انساني جميل وجليل كما اظن.
وجلال الكوميديا كما ذكرته في كتابي الموسوم (الثابت والمتحرك في الخطاب المسرحي) يتضح في القوة الكامنة في هذا النوع الدرامي (الادبي والفني) التي تمثل الطاقة الباعثة على الفعل الكوميدي الجميل والساخر، لانها كوميديا وليست فارساً، بمعنى انها تستهدف التهذيب وليس التهريج في ضوء الموقف المعاصر خاصة.
وكما ذكر الناقد الدرامي (اريك بنتلي): ان الكوميديا كالتراجيديا طريقة لفهم اليأس والقلق والمعاناة النفسية ولكنها ليست الطريقة نفسها.
فضلا عن ذلك ان الكوميديا توقظ الذهن وتحرك المشاعر، وموضوعاتها اكثر سعة من المأساة، فهي تطهر الذات الانسانية ايضاً، وعبر القبح تكشف عن زيف الواقع والسلوكيات الشاذة أو القبيحة، من خلال المفارقات، ولعل كوميديات أرستوفانيس وشكسبير ومولير خير مثال على هذا التوصيف.
إن المخرج المسرحي، لا يجمل القبح أبداً، بل يتخذ منه مادة تعبيرية، يضفي عليها قدراً ملموساً من مشاعره وانفعالاته وأخيلته وخبرته، ينتج منها عملاً جميلاً مدهشاً يثير الاهتمام، فيتحقق عندئذ التواصل و من ثم الاستجابة الجمالية لدى المتلقي.
وكثيراً، مايصار الى معالجة بعض الشخصيات أو الظواهر والمواقف السلبية، بنحو مغاير لما هو مألوف في الواقع، كما حدث لدى المؤلف والمخرج برتولد برخت الذي جعل من شخصية سلبية، وهي التي توصف بالمومس في مسرحية (الانسان الطيب من ستزوان) جعل منها انسانة شريفة وجميلة، على وفق مبدأ التغريب، وبالامكان استثمار مخيلة المخرج المسرحي لمعطيات الحروب والارهاب والطغاة بوصفها قباحات سلوكية، لتقديم عروض مسرحية تضج بالجمال و الدهشة والنقد، وكما قال: (جورج سانتيانا ) إن الاشياء القبيحة في مقدورها أن تثير الاهتمام، وبالطبع عندما تعالج على وفق رؤية، ابداعية جميلة ومؤثرة، وليس كما فعل بعض الفنانين التشكيليين، الذين ينتمون الى ما بعد الحداثة، اذ سكبوا القبح على سطح اللوحة كما هو، من دون معالجة فنية او جمالية، او تجميل المبولة وتذهيبها، بدعوى تحقيق الدهشة، في حين ان تلك الافعال تحقق التقزز والنفور وليس التعاطف والحبور، المهم هو النظر الى القبح على انه قيمة سلبية في الحياة والفن، والأهم معالجته ببراعة فنية مغايرة، بحيث يتحول الى قيمة او طاقة ايجابية تضاعف جمال المشهد المسرحي او اللوحة الفنية، بحيث يكون من عناصر العمل الابداعي الباعثة على الجمال وليس العكس بمعنى أنْ نجعل من تجانس المتناقضات عملاً فنياً يشع بالجمال، مثلما كان يفعل ابراهيم جلال في إخراجه المسرحي.