صراع الديكة بين الإذاعة والتلفزيون!

الصفحة الاخيرة 2020/09/09
...

زيد الحلّي
 
مرَّ على أول بث إذاعي عالميا 103 سنوات، وظلت الاذاعة تواصل تحديها، امام الانترنت والتلفاز، وباستغراب لافت، يُطرح بين مدة واخرى السؤال التالي: هل ستبقى الإذاعة وسيلة إعلامية قادرة على الحياة، في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، أم انها ستودع الدنيا، وتصبح من الذكريات المندثرة.؟
وهنا، لا أعني اذاعة بغداد، التي دائما ما استذكر مع نفسي، صوت بلبلها الميكانيكي الشهير الذي كان يغرد لمدة خمس دقائق يوميا قبل موعد افتتاحها الصباحي، ثم اصبح لاحقا هوية للإذاعة العراقية منذ انطلاقها مساء الاربعاء الاول من تموز عام 1936، ولا اعرف مصيره حالياً، إنما أعني الاذاعات المحلية والعربية والعالمية، التي تعمل بأعلى الطاقات حاليا لإيصال البرامج والموسيقى والغناء والثقافة الى ملايين المستمعين في دلالة، على أن الرهان على ضمور الإذاعة امام سطوة وسائل التواصل الاجتماعي، اصبح خاسرا وان وهج الاذاعة لا يزال يتغلغل في زوايا النفس، حيث يستطيع مستمعوها، متابعتها، وهم منهمكون في أداء عمل آخر، على نقيض التليفزيون والصحف، ويتربع هذا الوهج على الذائقة الانسانية التي يستهويها الخيال والتخيل.. ألم يقل عشاق الحب العذري لإن الأذن تعشق قبل العين أحياناً!
بالنسبة لي، كنت متيقنا الى قبل مدة ان الإذاعة، انحسرت امام التلفاز، لاسيما بعد تقنيات الصورة الجذابة، والديكورات المبهرة والغيد الحسان من المذيعات، اللواتي يشغلن المشاهدين والمشاهدات بصرعات الموضة، لكن جلسة ممتعة مع عدد من الزملاء المرموقين في مجال الإعلام والثقافة، جعلوني اعيد النظر في رؤاي للإذاعة، وانضم الى عالمها الممتع من جديد، فمن احاديثهم تبين لي أن هناك برامج وتقارير ونشرات اخبار وحوارات معمقة، تفوق في موضوعاتها ومهنية اعدادها، مئات البرامج التلفازية، التي تتسم معظمها بعدم السلامة في الأسلوب، وتركيب الجمل تركيباً ينِم على التكلُّف، وغلبة الركاكة والبعد عن جماليات اللّغة، حتى أن الكلام المكتوب الذي يقرؤه المذيعون والمذيعات يهبط في أحيان كثيرة إلى مستوىً يقربُ من العامية، أو يتسم بالجفاف. لقد دفعتني آراء اصدقائي، الى متابعة جادة بالبحث في الأثير عن ترددات لأكثر من اربعين محطة اذاعية محلية، بعضها يبث في محيط بغداد والآٔخر أبعد من ذلك، فلاحظت تشابها يكاد يكون متطابقا في شكل البرامج، لاسيما في موضوعة اتصالات المستمعين، حتى تشعر بالملل، وتستلم رسالة مفادها بأن اتصالات المواطنين مدفوعة الثمن لشركات الهاتف النقال هي سبب انشاء تلك الاذاعات، رغم وجود استثناءات في مهنية وتوجه هذه الإذاعة او تلك.. وهي استثناءات لا يعتد بها في مجال الاحصاء والمتابعة العلمية، غير أن الأمر وجدته معكوساً في الاذاعات الاجنبية الموجهة الى الوطن العربي، حيث لمستُ ثقافة اذاعية مرموقة واحتراما لذائقة المستمع وتقديسا لعقليته، من خلال سعي معدي البرامج في تلك الاذاعات لجعل مستمعهم، كشارب القهوة: يستمتع بها رغم سوادها ومرارتها، و يطرحون الأمور بطريقة عذبة في الكلمة والمعنى.
شكراً لمن أقنعني لأعود مثلما كنتُ في سابق السنين أحد عشاق الإذاعة.. وها أنا اليوم مستمع مواظب يطربني صوت (بعض) مذيعاتها.. لكن أي إذاعة؟ احتفظ بسر ذلك لنفسي، حتى لا أحصد زعل زملائي الإذاعيين، لا سيما الجدد منهم!.