{ايريس}.. إمرأة ضد النسيان

الصفحة الاخيرة 2020/09/10
...

   سعد ناجي علوان
يبقى السؤال الأكثر ألماً، ماذا يحدث لو توقف الكاتب لسببٍ ما، أو لرغبة شخصية عن الكتابة، ما الذي سيحدث بعد ذلك وكيف سيكون الأمر؟ أسئلة يضعها فيلم "أيريس" في جل اهتمامه، وهو يتناول إصابة الكاتبة والفيلسوفة أيريس مردوخ بمرض الزهايمر، وتقطع أواصر شخصيتها، لتصبح مجرد وجود مبهم بألم يتراكم، بعد أنْ تميزت لسنوات بتوهجها الحسي والإبداعي، كأنثى مقلقة للوسط الأدبي في لندن، وتشغل أهمية هذا الموضوع (الزهايمر)، كل من يخاف من الشيخوخة والمرض والنسيان، إلا أن الحب والتمسك بالحبيب، لرعايته أوقات ضعفه ومرضه ولؤمه وهشاشته، يبقى العنوان الأبرز والثيمة الأجمل التي صنع من أجلها الفيلم.
تطوع أفلام السيرة كل معالم الجغرافية الشخصية للفرد ومن يحيط بها، لإعلاء خطها الدرامي وآفاق حكايات الذات، مقابل الجانب الفني للفيلم، الذي اعتمد على مذكرات الزوج (جون. بايلي) المعنونة بـ"إكراماً لأيريس"، منذ المشاهد الأولى تنساب الكاميرا هادئة تحت الماء، تبحث عن أيريس، وهي تسبح مع زوجها جون بايلي، هذا الفعل (السباحة) سيتكرر في مدارات الفيلم، مثلما تتكرر فواصل حياتهما بطريقة تعاقب زمني، متداخلة أحياناً من خلال فعل ماضٍ يتكرر، أو يكتمل في الحاضر، أو فعل حاضر يتكرر ويكتمل في الماضي كما في فتح الأبواب مثلاً، إذ نرى أيريس الشابة تدخل، لتخرج أيريس المسنة في لحظة الفيلم نفسها، أو إلقائها محاضرة جامعية، فهي أستاذة للفلسفة في جامعة أكسفورد، او ربما تسرد حكاية في زمنين أحدهما يكمل الآخر، فالفيلم يتحرك إلى الأمام، والى الخلف في الوقت ذاته، ما يجعلنا مبهورين ونحن نحاول اللحاق بمسار الفيلم، مثلما يحاول جون بايلي مع أيريس، التي تسبقه دائماً في نزهة على الدراجات الهوائية، هذه النزهات أكثر فعل يتكرر في الفيلم، كعمق درامي وبيان لعتبة هذه العلاقة الغريبة بين الكاتبين التي تتفوق فيها أيريس على الدوام وتقود حبيبها جون، لتجسيد أغلب الدلالات الإنسانية بين الرجل والمرأة، وبين الفرد والمجتمع.، ليرتضي بعدها بأنْ يكون تابعاً لحبيبته أيريس، ويقبل بأي تبرير تقدمه لصخب علاقاتها الحميمية مع الرجال أو النساء، بل هو يتراجع ويختفي كي لا تراه في خضم لحظاتها الحميمية مع الآخرين، جسد هيو بونفيل شخصية جون بايلي الشاب، بينما أدت الممثلة كيت وينسليت دور أيريس الشابة، وكأنها مرج مثمر بالكرز، ترمي الجسد كقطعة نرد في الهواء، وتستردها متى ما أرادت بكل ثقة واقتدار.
يرتفع الرتم الدرامي للفيلم مع إصابة أيريس بالزهايمر تؤدي دورها في هذا السن الممثلة جودي دنش، بأداء مذهل وتمكن من الشخصية وانفعالاتها حتى آخر المشاهد، إذ نراها قلقة مسكونة بالهواجس، وتزداد الفراغات بين حقول الذاكرة، فتتحول أستاذة الأدب - يعرض الفيلم لمحات من أفكارها الفلسفية وهي تلقي بعضاً من محاضراتها - إلى مجرد طفلة تتلعثم أمام معاني الكلمات وأسماء الأشياء، وتفشل مرتين في اختبار الذاكرة الطبي، حينها تصبح عملية الكتابة، - ولو لأمر بسيط - شيئاً من الماضي، فهي لا تتذكر ولا تستطيع، وتخطئ بإعادة كتابة الكلمات أكثر من مرة، فيتشظى زجاج الذاكرة ويتصدع جدار الوعي، فيهرب المعنى وهذا ما يؤلمها ويحبطها كثيراً، إذ تنزلق الذاكرة نحو النسيان، فهي تخاف العجز، والجنون، وتخاف من الخوف، فتردد لزوجها الحاني: "جون ماذا أفعل.. لم تعد الكلمات تطاوعني"، وهذا ما جعلها تتوقف عن الكتابة، فقد أصبحت كحيوان محروم. لم يتوقف جون الزوج والحبيب عن تسخير كل ذرات روحه لإسعادها والمحافظة عليها، فيرفض إيداعها دار المسنين مرة بعد أخرى، ويؤدي كل أشغال البيت، يقرأ لها، ويشجعها على الكتابة، كي تتذكر، فغالباً ما يردد على مسامعها: "قطتي جميلة، قطتي شجاعة ستكتبين ويعود كل شيء كما هو".
يقول مخرج الفيلم ريتشارد إير: "إنَّ كثيراً من الحوارات جاءت كما كتبها الزوج جون بايلي في مذكراته، لكنَّ شراسة المرض صنعت منها كتلة من اللحم البارد، امرأة للنسيان تكرر ما تسمع من كلمات بلؤم وفجاجة، وهي تتوغل بعيداً عن جون وشغفه وحبه، حتى يقتنع أخيراً بإرسالها الى دار المسنين، إذ لم يعد قادراً على مواجهة كل هذا التعب والألم، لكنه يفرح وهو يراها ترقص تحت الضوء، في أحد ممرات المصحة وكأنها تختصر كل آلامها وما بقي لديها من حياة، وبهذه السكينة رحلت أيريس بهدوء، فيتمتم: "ليت ذلك يحصل لي" يكرر جون بايلي هذه الكلمات، وهو يجلس أمام حلمه الذي انطفأ، يخرج بعض ثيابها من الدرج، ليستنشق عطر أربعين عاماً من الحب، تخرج الكاميرا بعيداً نحو البحيرة تتهادى كبداية الفيلم، وهي تتابع قطعة حصى تتوغل في الماء، لتغلق التتابع الزمني للحكاية، فما نحن إلا بعض أسماء الماء يحملنا النهر إلى مصبه، ثم نعود طيناً مرة أخرى.