إبراهيم عيسى يطيح بماركس في {صاحب المقام}

الصفحة الاخيرة 2020/09/10
...

 علي حمود الحسن
 
شاهدت قبل أيام، فيلم "صاحب المقام" (2020) للمخرج المصري الشاب محمد العدل، الذي أثار لغطاً وجدلاً واسعين على منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، إذ انقسم الجمهور بين متعاطف مع الفيلم وآخر ناقم عليه، والمفارقة أنَّ معظم المنتقدين لـ"صاحب المقام" ركزوا على قصة الفيلم، التي كتبها الإعلامي والروائي المصري المثير للجدل إبراهيم عيسى المعروف بطروحاته المناهضة للسلفية ونبشه في المسكوت عنه من تاريخنا العربي الإسلامي، وإنْ كان عيسى - وهذه وجهة نظري الشخصية- لا يرتقي إلى مصاف الباحث، إنما الإعلامي الذي يبحث عن الموضوعات المثيرة، وهذا يفسر نجاح برامجه التلفزيونية، التي يتابعها جمهور واسع.
وجد عيسى في السينما وسيطاً حيوياً للتعبير عن أفكاره، فبعد فيلم "مولانا" (2016) الذي كتب قصته وحواره، وأخرجه مجدي أحمد علي، كتب صاحب "أشباح وطنية" قصة وسيناريو وحوار فيلم "الضيف" (2019) المقتبس من تجربته الشخصية، لكنه لم يكن موفقاً فيه، إذ سقط في الترهل والملل، من خلال حوارات مطولة، وهيمنة محمَوله المعرفي على ما هو درامي وفني، إلا أنه تجاوز ذلك في تجربته الثالثة "صاحب المقام" الذي كتب قصته وحواره، فضلاً عن السيناريو، فنحن إزاء فيلم وزعت شخصياته، وفقاً لمتطلبات الأحداث، وجميعها تصب في تعضيد حكاية يحيى (آسر ياسين) رجل الأعمال الثري، الذي يجد نفسه في مأزق، بعد تهديمه ضريحاً لولي صالح وتشييد مجمع سكني باذخ بدلاً منه، على الرغم من تحذير شريكه له، بأنَّ ذلك سيجلب لهم النحس والحظ السيئ، يسخر منه ويتابع البناء، فتتوالى الكوارث عليه وعلى شركته، ويكاد أنْ يجن بعد تعرض زوجته لنزف في الدماغ، تدخل على إثره في غيبوبة، تقترح عليه سيدة تعمل بالمستشفى، لا نعرف إنْ كانت شبحاً، أو صاحبة كرامات تدعى روح (يسرى)، أنْ يُرضي الأسياد الذين تعدى عليهم، واستهتر بكراماتهم، فينطلق في رحلة زار فيها المراقد والتكايا المعروفة، منها ضريح الشافعي، الذي التقى فيه رجلاً صالحاً أخبره أنه صديق والده، وأنَّ زيارته متوقعة، وأنَّ بيده الكثير لتنفيذ طلبات الغلابة، التي تتضمنها رسائلهم المرسلة الى الإمام الشافعي، يقدم له صندوق الأماني والرغبات، فيتفاجأ بسذاجة الطلبات وغرابتها، لكنه أصرَّ على تحقيقها، وبعد أنْ يؤدي مهمته بنجاح ينتابه إحساسٌ بالرضا، وتنقلب حياته رأساً على عقب، إذ تفيق زوجته من غيبوبتها، ويتمتع بحياة زوجية وعملية ناجحة راضية.
الفيلم زخر بنجوم كثر كضيوف شرف، منهم: هالة فاخر، وإبراهيم نصر (آخر أدواره)، ومحسن محيي الدين، ومحمود مسعود (توفي مؤخراً)، وفريدة سيف النصر، ومحمود عبد المغني وغيرهم، والملفت أنَّ هؤلاء الممثلين قدموا أداءً جيداً وأحياناً مبهراً، على الرغم من قصر أدوارهم، وهذا يحسب للمخرج الشاب محمد العدل (من أسرة العدل الفنية)، الذي أفصح عن موهبة وتميز، منذ أطروحة تخرجه "دستور يا سيدة " (2008)، فضلاً عن كونه مخرجاً تلفزيونياً مبدعاً، قدم أعمالاً ناجحة على شاكلة: مسلسل "العندليب.. حكاية شعب"، و"حارة اليهود"، "أم هارون"، و"أرض النقاق" وغيرها، لكنه مقلٌ في السينما، فأفلامه تعد على الأصابع، آخرها "صاحب المقام"، الذي نجح بإدارة شخوصه ونفذه بسردٍ مشوق، واستطاع إلى حدٍ ما أنْ يحدَّ من نمطية شخصيات عيسى، التي غالباً ما تكون أسيرة أفكاره ورؤاه، فآسر ياسين تألق كعادته في تجسيد شخصية يحيى، وإنْ بدا مغترباً ومتناقضاً، في كثيرٍ من تصرفاته، ويسرى في دور روح، لم يكن مقنعاً البتة، على الرغم من كونه مسوغاً لأحداث غير مقنعة، فهي شخصية مغتربة بمفهومية بريخت، وكسرت السياق السردي، فبدت عارفة بكل شيء ولديها ملكة خوارقية، نراها تتبنى تطهير روح البطل من ذنبه الكبير بالإساءة إلى الأولياء ومقاماتهم المقدسة، وهي تتفق مع زوجته (أمينة خليل) على الاستمرار في غيبوبتها، حتى يتخلص يحيى من ملذات الدنيا.
أثار عيسى موضوعة الشفيع والتبرك بالأولياء، هذه الثيمة لاقت قبولاً عند المتصوفة والمريدين، لكنها أٌلَبَـت عليه جمهوره من العلمانيين، بعد أنْ أطاح بمقولة ماركس الشهيرة "الدين أفيون الشعوب"، كما حنق عليه السلفيون الذين وجدوا في دعوته تلك محض خروج عن الملة، فلا شفيع غير الله.
لكن هل حقاً يدعو عيسى إلى أنَّ الحل هو بالتمسك بالأولياء ومقاماتهم؟، لا أعتقد، فمن وجهة نظري، أراد عيسى القول: "بأنَّ الشفاعة والتبرك بالصالحين، هي جزءٌ من يقين وتراث شعوبنا العربية عموماً والمصرية خصوصاً، وربما خلاصها.