لعل من الأخطاء التي قد كانت فادحة، والتي ارتكبتها الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003، هو ذلك التوسع في المشاريع، الكبيرة والاستراتيجية، التي كان يصل عددها إلى الآلاف، الأمر الذي ادى إلى عدم القدرة على إنجازها، وفقا لما كان مخططا لها.
ومما لاشك فيه، ان الذي دفع الوزارات والحكومات المحلية في المحافظات، إلى هذا التوسع الكبير في المشاريع، هو وجود وفرة مالية كبيرة في السنوات الفارضة، لدرجة ان تخصيصات المحافظة الواحدة في السنة الواحدة، كانت بالتريليونات وليس بالمليارات، ولكن ما يؤسف له ان تلك الأموال القارونية لم تستثمر بنحو صحيح، الأمر الذي ادى إلى المزيد من التدهور في الخدمات، من دون ان ننسى انه في المقابل، كان هناك العديد من المشاريع التي تم انجازها، وكان اثرها الخدمي واضحا في بعض المفاصل، الا أن تهالك القطاعات التنموية، والزيادات السكانية الكبيرة، والتوسع المستمر في المدن، جعل من تلك المشاريع غير
واضحة.
ولكي لا ابتعد عن ثيمة الفكرة التي اريد طرحها هنا، والمتمثلة بالتوسع الكبير في عدد المشاريع، أقول، إن الأموال المتأتية من ايرادات النفط، ومهما كانت كثيرة، فإن تأثيرها سيكون معدوما، او على الأقل غير واضح المعالم، إذا فرقناها على أعداد كبيرة من المشاريع، لاسيما إذا كانت مشاريع ستراتيجية عملاقة يتطلب إنجازها عدة سنوات وتخصيصات مالية كبيرة، فكان من الأجدر ان يتم التركيز على الأهم ثم المهم من المشاريع وحسب القطاعات التنموية، فمثلا ان يتم تأهيل قطاع الكهرباء، ثم نتحول إلى قطاع النقل، او الصحة او التعليم او الاتصالات، او الماء او المجاري، او الزراعة او الري..
وغيرها.
وإذا كانت هذه الفكرة غير مقبولة، على فرض ان القطاعات التنموية يجب ان تتكامل في ما بينها، وإن جميعها بحاجة إلى بناء، وهذا يتطلب ان تجري عملية البناء لهذه القطاعات في آن واحد، وهنا، يكون الحل، من خلال التركيز على عدد من المشاريع الأساسية في كل محافظة، سواء كانت تلك المشاريع ضمن برنامج تنمية الأقاليم الذي تضطلع به الحكومات المحلية، او البرنامج الاستثماري، الذي تنفذه الوزارات الاتحادية، بهدف ضمان إنجازها وفقا للتخصيصات
المتاحة.
إن سياسة التوسع الكبير في المشاريع، وبعد حالة الصيهود التي شهدتها أسعار النفط، ونضوب الأموال، أوجدت مشكلة كبيرة، للدولة، بدأت عام 2014، على اثر الأزمة المزدوجة التي ضربت العراق والتي تمثلت بتدهور أسعار النفط وظهور عصابات داعش الارهابية، اذ تسببت تلك الأزمة بإيقاف اكثر من 6 آلاف مشروع كانت على قيد التنفيذ، فضلا عن الدمار الذي تسببت به عصابات داعش
الارهابية.
في عامي 2018 و 2019 كانت هناك محاولات لمعالجة هذه المشكلة، وكان التركيز على المشاريع ذات الطابع الخدمي، ولكن ما ان حل عام 2020، حتى وجه ضربة أخرى قاسية وعنيفة للمشهد التنموي، كما بقية المشاهد، عندما جاءنا بأزمة مزدوجة جديدة، قاسمها المشترك النفط، مع جائحة كورونا، لتؤدي إلى تفاقم مشكلة تلك الآلاف من المشاريع، التي انفقت عليها الدولة ترليونات الدنانير، ولكي تنجزها تحتاج مثلها من
الترليونات.
وهنا ان المشكلة ستكون مزدوجة أيضا، فهذه المشاريع ستبقى مثل الشبح الذي يطارد الجهات ذات العلاقة، ودائما يبقى ملفها عامل ضغط على الموازنة، لاننا سنكون أمام خيارين، إما ان نترك هذه المشاريع، وننسى الأموال التي أنفقت عليها، وهذه خسارة كبيرة ومؤلمة، او ننتظر لحين ميسرة لإنجازها، مع ما تتعرض له من اندثارات، تزيد منكلفة الإنجاز، والميسرة، قد لا تأتي في زمن منظور، وهنا يتطلب الأمر البحث عن مصادرتمويل مضمونة، على ان يتم التركيز على المشاريع الأكثر أهمية، وذات النسب الإنجازيَّة العالية، ثم التحول الى المشاريع الأخرى تباعا، وبحسب إمكانية
التمويل.
أما الرأس الثاني من المشكلة فيتمثل بحرمان المواطن من الخدمات، التي تعد على رأس واجبات الحكومة، فالمواطن غير معني بوضع احجار الأساس لآلاف المشاريع، لتتلاشى تلك الأحجار بين الأشواك، مثل قبر إنسان غريب دُفن في صحراء.
المواطن يبحث عن حفلات، قص شريط إنجاز مشروع يعطيه خدمة حقيقة، يريد الشارع المعبّد والمدرسة والمستشفى والكهرباء والماء النقي، لكي يعيش حرا مرفها ينعم بحقوقه التي كفلها الدستور.