مستقبل الابتكارات التقنيَّة

اقتصادية 2020/09/16
...

 علي الدفاعي 
يحدونا تفاؤل كبير حيال الابتكارات المتسارعة التي تنتجها صناعة التكنولوجيا للبشرية، وتبرهن لنا التكنولوجيا الحديثة ممثلة بالذكاء الاصطناعي وتقنية الجيل الخامس وميزات تحليل البيانات الضخمة بأنها محور دعم حيوي لإيجاد الحلول الكفيلة بمواجهة التحديات التي تواجه عالمنا وبناء مستقبل أفضل. 
فتجربة التكنولوجيا مع فيروس كورونا المستجد كوفيد-19 مثال واضح على أهمية تسخير الابتكارات التقنية لصالح التعامل مع الأزمات، سواء كان ذلك على صعيد تتبع انتشار الفيروس وإجراء الفحوصات والمساهمة في الوصول لعلاج ولقاح، أو على مستوى إيجاد البدائل والحلول كالتعلم والعمل عن بعد، والتجارة الإلكترونية ومختلف الانشطة الاقتصادية وقنوات التواصل الاجتماعي، ودعم خطط الانتعاش الاقتصادي بمزيد من محفزات تطوير الأعمال وخدمات مختلف 
القطاعات. 
في ذات الوقت الذي يحدونا فيه أمل كبير بمستقبلنا على ضوء مستجدات التكنولوجيا، نجد أنفسنا قيد دائرة جديدة من التشاؤم بسبب تصاعد حرب التكنولوجيا الأميركية الصينية. ولدى التمعن بالتفاصيل، يتولد لدى المتتبع انطباع بأن حرية الابتكارات التكنولوجية باتت مهددة بعد أن جرى تسييسها وأصبحت للأسف مقيدة بأجندات جيوسياسية يتم توظيفها لخدمة المصالح التجارية لدول كبرى تسعى لفرض إجراءات أكثر تشدداً ستسهم بتقييد إنتاج التكنولوجيا لمزيد من الابتكارات لمستقبل أجيالنا 
المقبلة.
الإدارة الأميركية تعي مختلف أبعاد المذهب التجاري التكنولوجي الجديد الذي تتبناه الصين، ما دفع بها للتشدد في قراراتها ضد مصادر التكنولوجيا الصينية، ووصل بها الأمر للمبالغة أحياناً بحسب خبراء اقتصاديين. فلم تكتفِ بتحذير الدول من مخاطر محتملة للتكنولوجيا الصينية فحسب، بل رفعت سقف حملتها بقرارات عدة تحظر هذه التكنولوجيا وتفرض عقوبات على من يتعامل بها، وتضغط على حلفائها بشدة لتبني موقفها من دون تقديم أية براهين. هذا ما فعلته إدارة ترامب مع المارد الصيني هواوي.
ورغم أن العديد من الشركات الأميركية بما فيها مايكروسوفت وآبل تعتمد على السوق الصينية في التصنيع والمبيعات، ويمكن لأعمالها أن تتأثر بقرارات الإدارة الأميركية ضد الصين، إلا أن واشنطن تستمر في تصعيد حملتها ضد بكين، وتفتح نوافذ جديدة أمام عداء التكنولوجيا الصينية، ما قد يؤدي لخطر تعرض أسواق التكنولوجيا الكبرى للتصدع والابتعاد عن بعضها أكثر فأكثر بحسب تصريح نائب المدير التنفيذي لمايكروسوفت جون فيليب كورتوا لوكالة فرانس برس 
مؤخراً. 
الفصول الجديدة لحرب أميركا على تكنولوجيا الصين تعني أن واشنطن مصممة أكثر من أي وقت مضى على احتواء صعود القوة الصينية الناعمة بجميع الوسائل. فلم تقتصر على عقوبات شركة "زي تي إي" الصينية ورفض دخول "تشاينا موبايل" للسوق الأميركية ووقف العديد من صفقات استحواذ شركات صينية على أميركية ومحاربة تقنية الجيل الخامس من هواوي، بل تعدتها حتى لتطبيق تيك توك وإعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن 5 مجالات ستسعى الحكومة الأميركية لمنع الشركات الصينية من الوصول إليها، وهي متاجر التطبيقات والتطبيقات ذاتها والخدمات السحابية ومشغلو شبكات الهاتف المحمول وكابلات الانترنت 
البحري. 
وزير الخارجية الأميركي أعلن عن إجراءات أميركا ضد تكنولوجيا الصين في إطار مبادرة "الشبكة النظيفة" من الحكومة الأميركية لإقصاء التطبيقات والتكنولوجيا الصينية "غير الموثوقة". الأمر الذي يثير الجدل والعديد من التساؤلات حول واقع موثوقية التكنولوجيا بغض النظر عن جنسيتها. فهل حقاً هناك تكنولوجيا وتطبيقات موثوقة!
علمتنا التجارب بأننا كمستخدمين لسنا بمأمن عن تجسس أي من الشركات التكنولوجية علينا، بما فيها الغربية. فهل تركيز الحكومة الأميركية الشديد على شركات التكنولوجيا الصينية مبرر؟ هل فيسبوك وجوجل وآبل وسيسكو ومايكروسوفت ونوكيا وإريكسون والعديد غيرهم من الشركات والتطبيقات الغربية خارج دائرة الشك فعلاً؟
من الواضح بأن إدارة ترامب تستهدف عرقلة رحلة الصين لريادة شبكات الجيل الخامس عالمياً، ويسعى دبلوماسيوها لإقناع حلفائها حظر شركة هواوي بتهم التجسس وخرق أصول الأمن السيبراني من دون تقديم أدلة علمية مثبتة. 
ونحن إذ نشاطر الحكومة الأميركية وسائر الدول قلق أمن المعلومات وخصوصية المستخدم، نرفع أصواتنا ضد تسييس التجارة وتقييد حريتها ونزاهة 
تنافسها. 
السؤال الذي يطرح نفسه، إذا كانت العديد من شركات الاتصالات العالمية الرائدة والجهات التنظيمية للاتصالات وتقنية المعلومات في معظم دول العالم، وكذلك المنظمات الدولية المعنية بقطاع الاتصالات وتقنية المعلومات لم تعلن حتى اليوم عن دلائل صريحة تدين تكنولوجيا الصين في مجال التجسس والمساس بخصوصية المستخدم، أليس الأحرى بمجتمع تقنية المعلومات والاتصالات والحكومة الأميركية أن يبتعدوا عن خوض غمار هذا الأمر من دون تقديم دليل. 
مستقبل التكنولوجيا وابتكاراتها من حقنا جميعاً. وليس في صالح أحد أن تتم عرقلة مسيرة الابتكارات بمناوشات جيوسياسية وحساسيات جنسية مصدر 
التكنولوجيا. 
عالمنا بحاجة لمزيد من أوجه الانفتاح والافادة من تجارب الآخرين، لا القوقعة وبناء مزيد من الجدران. وإن كانت دول منطقتنا العربية تسعى فعلياً لبناء "النظام الإيكولوجي" الشامل والمتكامل لتقنية المعلومات والاتصالات الذي أثبتت فاعليته في دعم مسيرة التنمية في مختلف البلدان، لا بد لمسائل التكنولوجيا أن تتم مناقشتها وإقرارها في إطار العلم والمعرفة، لا السياسة والمصالح التجاريَّة.