القناع الكيمياوي!

الصفحة الاخيرة 2020/09/18
...

حسن العاني 
عام 1985.. انها سنة جديدة من حرب رعناء قادها انفار من الادعياء وعشاق المجد الدموي، وذهب ضحيتها عشرات الآلاف من شباب الجارين المسلمين وخلفت وراءها مئات الآلاف من المعاقين والايتام والارامل.. في النصف الأول من ذلك العام حيث لم يشفع لي عمري، تم ارسالي ضمن قاطع من قواطع الجيش الشعبي الى واحدة من جبهات القتال اسمها (الطيب)، مكان يجمع بين البيئة الصحراوية وبين السهول المتموجة ذات الكثبان الرملية. 
انا رجل مدني في كل شيء، سلوكي وحياتي وثقافتي، وكان علي في بضعة أيام ان اعتاد على كل شيء، بما في ذلك التعايش مع 400 نوع من العقارب والافاعي والسحالي العملاقة، ولا بد من إقامة علاقة ودية مع هذه الكائنات امر ممكن بحكم الزمن والاعتياد، وهو الاعتياد ذاته على انفلاقات العنقودي والنمساوي واصوات الراجمات والمدافع والدبابات وعمليات الهروب السريعة للاختباء في الملاجئ، كلما رأينا في الجو طائرة مقاتلة او سمتية او ورقية.
الرجل المدني اعتاد مرغماً على حياته الجديدة بما في ذلك (المخاطبات الإدارية) مع (اللواء 44 - قوة قيس) كونه المسؤول عن قاطعنا عسكرياً، هذا من ناحية، وكوني من ناحية أخرى مسؤول الذاتية في القاطع، لانني (المقاتل) الوحيد الحاصل على شهادة جامعية، وطالما ضحكت سراً في الأيام الأولى، فانا لا اعرف على سبيل المثال معنى ( لمش) قبل ان اتعلم بمرور الوقت هذه اللغة العسكرية، حيث ظهر ان هذه المفردة تعني: لواء مشاة!!
أمر واحد فقط لم أستطع الاعتياد عليه وهو (القناع الكيمياوي) وخرطومه الأسود، الذي كنا نرتديه في الحالات التي تحصل فيها ضربة كيمياوية من احد الطرفين، لأنه يشعرني بالاختناق وصعوبة التنفس.. في الجبهة كنا نتمتع باجازة امدها أسبوع واحد شهرياً، وكنت في كل إجازة ازور جريدتي (العراق والجمهورية) اللتين اعمل فيهما.
صديقي الميساني، المصور المبدع حميد العراقي رحمه الله، الذي يعمل في جريدة العراق، استفسر مني في اول اجازة لي، عن (اوضاعي) في الجبهة، فقلت له "إنها الحرب. ماذا يمكن ان نقول عنها سوى انها حرب!!" ثم حدثته عن مشكلتي، او انزعاجي من القناع الكيمياوي.. واستغربت لأنَّ العراقي ابدى استغرابه عندما قال لي بلهجته الجنوبية الظريفة ما معناه (ان هذا القناع لايزعج ابداً)، وحين سالته مندهشاً، اخبرني انه ثقب القناع واصبح الهواء يصله بصورة طبيعية.. واطلق ضحكة اجبرتني ان انسى دهشتي واطلق ضحكة مماثلة.. رحم الله صديقي حميد العراقي، فلو كان على قيد الحياة اليوم لقام بثقب الكمامة.