لبط الشبوط فعكر وجه الماء, منه اغتاظ أبي فشد زعنفته وطوح به الى تنور أمي معداً لها وجبة غذاء احتفالاً بأربعينيَّة قدومي الى هذا العالم, وقتها لم أصرخ, انطلقت من حلم سبحت فيه مع سرب السمك المحزون, كاد سيدي الخضر الساكن في الماء أنْ يغريني بندائه في الغوص الى مستقره لولا ذلك العسكري الذي قذف بجسده متوسلاً الخضر أنْ لم يحن الوقت بعد, تقدم مني أبي أثناء رقادي، همس في أذني, قال إنْ شئت التدخل في شؤون هذا العالم فاعلم أنَّ الولادة سينما السباحة سينما تقاطع الجثث الحديديَّة سينما, والزمان سينما سترى فيها مقابر فغرت أفواهها من تزاحم الأجساد أقامها الغول, والمكان سينما سيسود من هطول القنابل, والخيانات سينما كبيرة تدخل من خرم الابرة, والنسيان سينما موحشة, إياك والنسيان فإنه نقمة, الحب سينما تقصم ظهر الوحشة, الموت سينما تقترب من الكوميديا, فأنت ترى, وهذا أبي, كم من الشرور ستمارس, الموت سيقترب بناءً على الامتلاك الداعر, أليست هذه كوميديا؟ قلت يا أبي في وقت ما قبل الولادة وأمام الساحة الترابية لقريتنا كنت أشاهد نفسي وأنا أهرع مع أقراني لأرى حفلة تراب تتوسطها قماشة بالأبيض والأسود وأناس يتحركون مثلنا فأندهش وأروح أرفس بقوة كير أمي علها تقذف بي, وكان ذاك, في تلك اللحظات اليومية والتي كان فيها قرص الشمس يغوص في هامة الأرض والظلام يكاد يرخي سدوله, وسعال عامل الفوانيس الذي غادر وهو يحتضن آخر فانوس إنارة, وأبي الذي يقذف بجسده (كجلمود صخر) إلى نهر ديالى الذي جف الآن, وهديل الحمام الذي استوطن أعلى دارتنا الطينيَّة, وأمي التي كانت تتشاءم من نواحه (يمه يجيب الخراب) وكانت نبوءة أمي على صواب, غبار قريتنا يتراقص مع فوانيس المرحوم, كانت تأتي مقرقعة تدوى فيرتبك فرح الجميع بقدومها, جاءت السينما, يتحول كل شيء آنذاك الى أبيض إلا عباءات النساء التي غطت ساحات أخرى تعرفت عليها في ما بعد, ساحات إعدام, ساحات قتال, كنت أتساءل وأنا ذلك الغر الذي بدأ يرنو الى سروال جارته الأحمر الشفيف فيلتهب حباً, لم لا تكون هناك ساحات للحب؟ ساحات للألعاب؟ لم كن أعلم أنَّ السينما كانت تنصب لي فخاً, فكل ما كنت أراه من حب تحول الى حربٍ الى موت.
لقد مضى زمنٌ طويل على رقاد هؤلاء الجنود وهم في مواضعهم خوفاً من ساحات الإعدام التي خلفهم وساحات الموت التي أمامهم, تهرأت جلودهم, وذات صباح شتوي قارس أطلق الرب دموعه بغزارة حزناً وشفقة على أرواحهم, على أجسادهم, دعاهم الى ساحة التنظيف, وهكذا كان الجميع, ربي كما خلقتني, هرع الكل يبارك دموع الرب ويغتسل بها تحت خيمته الزرقاء, هل كان الرب ينصب فخاً هو ايضاً؟ ففي رغوة البلل ابتدأ الرجم, اختلط الدم بالدمع بالوحل بالصراخ, أجساد من دون أرجل تركض وأذرع تحلق في الفضاء يحتضن بعضها البعض, رأس مقطوع استدار نحوي قال كلمات, نظر الى الرب تمتم بكلمات وأغمض عينيه, وكما فعل أبي عند ولادتي, أدنيت أذني منه, همس قائلاً, كلها ساحات للألعاب, فأنت ترى الآن هذه اللعبة, ألم ترَ قبلها لعبة الإعدام؟ ها هي الساحات تقودني الى ساحة السينما, الغول ينشر الرذاذ في الساحات, هذا الرذاذ ملتصق بوجهي, أحاول أنْ أمسك به يتطاير, ألامسه يتطاير, أضع أمامه مرآة ساحر يلتصق بالساحر, أفتح كتاب النجوم يتحول الى نجمة (أم ذويل) ولدي يسألني هل ترى يا أبي؟ قلت ماذا؟ قال هذا الرذاذ في كراسي المدرسة, يحلق الرذاذ ويلتصق بسقف فمي وأصمت, أهيل عليه الماء يتطاير, احتضن ولدي خوفاً عليه من الرذاذ فتنتصب أمامي قرية رمتها الطائرات بالرذاذ, منها أرسم خطاً لرجل يبقى شاهداً على المذبحة, من بين أصابعه تفلت منه ذاكرته, تطارده مؤسسة الغول, تبعث به الى مصح عبر أحد مخبريها, يدخل المصح, ينصحه كاتب الأسى بألا يفتح أياً من هذه الأبواب التي أمامه, يخل بالنصيحة ويهشم بجمجمته أول باب, يجد هناك مقعدين يجلس فوق أحدهما كاتب الأسى ويتخذ هو لنفسه المقعد الآخر, يسأل, الى أين يقود هذا الباب؟ الى ساحة, يجيبه كاتب الأسى, يتقدم ويهشم برأسه هذا الباب ليطل على ساحة خضراء وارفة يقبع عند منتصفها تابوت فغر فيه, يتقدم نحو التابوت يرقد فيه يتقدم منه كاتب الأسى يغلق التابوت عليه, عندها تدخل عربات يدفعها رجال أشداء ينشغلون برفع الساحة, يلفون العشب, يفككون الشبابيك, يرفعون الأبواب, اختفى المصح, اختفى المخبر, وحدي أقبع تحت غطاء وسط صحراء, ألم أقل إنَّ النبوءة كانت تبدأ من غبار قريتنا؟..