د. عبد الحسين علوان الدرويش
لم يكن الحاج الحلواني، الذي كان عائداً من البازار الكبير، عل يقين تام من اقامة حفل الذكرى السنوية لولادة سيد الشهداء، في كل عام، بعد أن شق بقامته الطويلة، شدة الازدحام المتوالي، تتسارع خطوات، تتراجع خطوات، جريان لا يتوقف سيله، عند تعاقب الليل والنهار، لهذا البازار التاريخي العتيق، الذي يعود الى عصر السلالة الصفوية، وهو مقسم الى عدة ممرات بطول عشرة كيلو مترات تقريباً، كل منها متخصص في انواع مختلفة من السلع، وله عدة مداخل، اضافة الى المتاجر يحتوي على مساجد ومطاعم وبيوت ضيافة ومقاهٍ تراثية، اضافة الى الحّمام
العام.
وتعد هذه السوق اكبر سوق من نوعها في العالم، وقد ظهرت قبل أكثر من اربعمئة سنة، في مدينة الري، التي اشتهرت في عصور الخلافة الاسلامية. وما يمّيز البازار، هو انه ليس شارعاً، اصطفت المحالّ التجاريّة مصادفة على جانبيه، كشارع الحمراء في بيروت، أو جادة الشانز يليزيه في باريس، فقد ولد سوقاً بكل المواصفات المحليه والعالمية، والذي وضعته المنظمة العالمية لليونسكو، اخيراً تحت قائمة التراث العالمي، وبهذا تجاوز عمره مئات السنين، أما شوارعه الأخرى فمغطاة بسقوف على شكل قناطر، تسهم في تكريس الانطباع عن ضخامته وأتّساعه، ويتكون البازار من عدة بازارات صغيرة.
عندما يلج الحاج الحلواني في متاهة الأسواق المتخصّصة، التي تعودت قدماه على مسالكها، في شوارع متوازية تجمعها أزقة وتقاطعات تزيد تفريعاتها دهشة للذي ليس لديه الخبزة الكافية بهذه الاسواق، والتي قد تؤدي حتماً به الى تيهانه. لكن الحاج الحلواني توارث العمل في هذه السوق عن جده السابع عشر، والتي كانت أصوله من الاسرة القاجاربة، التي حكمت البلاد في القرن السابع عشر.
وعندما يمر الحاج الحلواني ببزار الخيطاين، حيث تباع وتفصّل الأقمشة السوداء والملونة الخاصة والتي تسمى ب( التشادور) وهو الزيّ التقليدي للمرأة المحجّبة.
والمعروف أن التشادور الاسود هو للمناسبات الرسمية، حزناً أم فرحاً. أما التشادور الملوّن، فهو للصلاة ولأستقبال الضيوف في منزله الشرقي الذي لا يخلو من الزائرين للعتبات المقدسة من حدبٍ
وصوب .
وأثناء مرور الحاج الحلواني ببازار العطارين، وقد أنهكه التعب وبدأ يتصبب جسده عرقاً، فنادى على بائع عرق السوس المتجول وهو ينادي بطقطقة طاساته النحاسية، فطلب منه طاسه من عرق السوس ليطفي نيران المشتعلة في داخله، وكان بازار العطارين تصدر منه رائحة التوابل والاعشاب واعواد البخور والمسك والعنبر، وخصوصاً الزعفران الذي يعتبر الذهب الاصفر لأنه يباع بالمثقال الخاص بوزن الذهب.
بعدما ابتعد الحاج الحلواني عن سوق العطارين، وبدأت رائحة السوق تضمحل وتتلاشى، دلف الى بزار الورد وصناعة العطور، تشبعت خياشمه برائحة القداح والنرجس والياسمين، والصنوبر، والياس.
وكان الحلواني كلما يمر بمحال العطور، يرش كل ملابسه صاحب المحل من خلال حقنة طبية زجاجية، فيتصاعد ضوع العطر مع المكان، متلائمة لتؤطر خليطاً عجيباً من جميع العطور، حتى لتطغى على المكان رائحة المسك والعنبر.
ثم بلغت أنفه مباشرة رائحة الكباب المشوي على الفحم، في بازار الكباب، حيث يشكل مع الأرز البسمتي الطبق التقليدي اليومي والشعبي (جلو كباب). وكان الحاج يحث الخطى للوصول الى مبتغاه وهو محله في آخر السوق.
ولابدّ من له أن يجتاز خارطة السوق الكبرى، لكنه جلس ليرتاح قليلاً، ويشرب الشاي الاصفر، في سوق الخيام، وهو يردد من أبيات الشاعر الخيام( غداً بظهر الغيب واليوم لي).
وكان المحل الذي يعمل فيه الحاج الحلويات والاخباز والمعجنات، تفوح منه بقايا عالقة من رائحة الدهن الحرّ، وقد خلا المحل من كل المواد الاساسية التي تدخل في صناعة الحلويات والمعجنات.
وبدأ يتساءل مع نفسه الحيرىَ، ماذا يفعل وقد مر بتعسر وأزمة مالية خانقة!! وقد اقترب موعد الاحتفال السنوي الذي يقيمه الحاج في كل عام، لن يفوته عاماً واحداً، وبقي في حيرة من أمره، لايدري ماذا يعمل، وأصدقاؤه وزبائنه وأصحاب المحال المجاورة له، يتساءلون عن وقت ومنهاج الاحتفال. فقرر الحاج مع نفسه قراراً خطيراً وصمم على مضضٍ وبدون علم زوجته، على أن يخرج ابنته الوحيدة الى سوق النخاسين ويبيعها؟.
وبعد أن جلب الحاج ابنته وأمسك بيدها وهي طائعة لوالدها لم تبُد أي معارضة أورفض، وذهب بها الى رأس السوق، ووقف هناك حائراً لايدري بماذا يفتتح كلامه!، وماذا يقول؟ وكيف ينادي على ابنته للبيع؟.
وقد غلبه البكاء الحاد الخافت، وكذلك ابنته تبكي لبكائه وهي مذهولة مصدومة لا تعي من هذه الظروف المباغتة شيئاً. ومضت عليه وهو في هذه الحالة المزرية برهة من الزمن المر، وكأنه عالق في مستنقعات آسنة، طفح رأسه فوق هذا السطح، وجسده مدفون كله داخل المستنقع. وبينما هو في هذه الحالة الميؤوس منها، إذ جاءه رجل من أقصى المدينة، ذو وقار وهيبة، وهو محاط بهالة من النور، وسلمّ عليه باسمه؟، وسأله عن محله؟، وقال له بالحرف الواحد:
إنه يريد أن يتعامل مع الحاج الحلواني، ثم أكد ذلك القول.
وبعد هنيهة أخرج رزمتين من الاوراق النقدية بالالاف، وأعطاها الى الحاج الحلواني. وقال له:
هذه مقّدمة بسيطة لتعاملنا معكم ايها الحاج، ثم أردف بالقول بحزم شديد على ماهو عليه: سأعود ان شاء الله، في أقرب فرصة ممكنة الى محلّك لكي تقرّر العمل. ثم بعد ذلك ودّع الحاج الحلواني وأنصرف في متاهات البازار وضجيجه الذي الذي لا ينتهي.