في توديع آخر النقاد الانطباعيين

ثقافة 2020/10/04
...

د عالية خليل إبراهيم
 
الدكتور الشاعر «عبد الكريم راضي جعفر» الذي رحل عن عالمنا إلى دار المستقر أواخر شهر آب 2020 قامة ابداعية شاخصة اضافت للتعليم الجامعي ولجهود البحث الأدبي الشيء الكثير، درس استاذنا اجيالا من الأدباء والباحثين والنقاد بداية من عمله مدرسا للغة العربية في البصرة بداية السبعينيات، وصولا إلى تسنمه درجة الاستاذ في كلية التربية الجامعة المستنصرية، حتى تقاعده 2014 أشرف خلال مسيرته التعليمية التي امتدت على مدى أربعين سنة ونيف من الزمن على العديد من رسائل ماجستير والدكتوراه،
 اضافة إلى جهوده في البحث الأكاديمي ورفده مكتبة الدراسات الأدبية العراقية بآثار نقدية مهمة منها كتابه «رماد الشعر، دراسة في البنية الموضوعية والفنية للشعر الوجداني الحديث في العراق، صدرت طبعته الأولى 1998 وهو من أهم المراجع الراصدة لتيار الكلاسيكية الجديدة في الشعر العراقي، سواءً بشكلها العمودي أو الحر بين عامي (1938-1958)، وقد كان في شعره تلميذ نجيب لهذا التيار مستوعبا لأبعاده الشكلية والدلالية ومجددا من داخل اطره الابداعية، ومن مؤلفاته الأخرى» نظرية الشعر عند نازك الملائكة» و»مفهوم الشعر عند السياب» اضافة إلى دراسة وتحقيق ديوان الشاعر «عبد القادر رشيد الناصري» وكتاب «الشمعة والمصباح».
عُرف استاذنا الراحل وذاع صيته في الأوساط الجامعية بدفاعه الشرس عن الاتجاه التأثري أو الانطباعي «المحافظ» في دراسة الشعر ونقده ومناوءته الشديدة لأدعياء الحداثة الأدبية (كما يصفهم هو) من الأساتذة الجامعيين وحتى النقاد والباحثين خارج المؤسسة الأكاديمية، وقد صادف دفاع الاستاذ عن المناهج التقليدية مع وجود أساتذة نساء ورجالا في كلية التربية التي يدرس فيها من المتحمسين لتوجهات الحداثة الأدبية والنقدية الوافدة من الغرب، ما تسبب في احتدام الرأي والرأي المضاد داخل أروقة الكلية وفي قاعات الدرس والمناقشات العلمية. 
 ادى الجدل في موضوع المناهج التقليدية أو الحداثية إلى نزاع وخصام بين الأساتذة وامتد النزاع إلى طلاب الدراسات العليا بين مريد لهذا الاستاذ ومؤيد لذلك الاخر، معركة أدبية اندلعت في تسعينيات القرن الفائت ذكرتنا بمعارك أدبية وفكرية مشابهة دارت في مطلع القرن العشرين مع بواكير النهضة الأدبية والثقافية العربية منها معركة العقاد ضد شعراء الاحياء ومنهم «أحمد شوقي» ومنها المعركة الشهيرة بين الاستاذ والناقد «محمد مندور» وبين الدكتور «زكي نجيب محمود» منتصف القرن العشرين فبينما يؤمن الدكتور «مندور» بتحكيم التذوق الجمالي وذكاء الناقد في دراسة الشعر 
ونقده ينادي الدكتور «زكي نجيب محمود» بضرورة تفعيل المناهج العلمية التجريبية المقننة وعدم الانسياق وراء الذاتية والعشوائية التي يفرضها تعدد الاذواق والقراءات، المعارك تلك بقدر ما تؤدي إلى الخصومة الشخصية بين اصحاب الآراء المتباينة في جانبها السلبي لها أثر ايجابي في تحريك المياه الراكدة في الجامعات والدفع باتجاه المزيد من القراءة والاطلاع والنقاش والبحث لمواكبة آخر المستجدات في عالم البحث العلمي، وهذا للأسف ما تفتقده جامعاتنا في الوقت الراهن، إذ تسودها أجواء الركود العلمي والروتين الوظيفي القاتل. 
 يحدثنا استاذي أنا وزملائي في مرحلة الدكتوراه فيذكر: إن النقد الأدبي هو انشاء جميل وذكي، من كان منكم باستطاعته كتابة موضوع إنشائي جيد فبإمكانه أن يكون ناقدا جيدا شريطة أن تعشق ما تكتب وتتذوق جمالياته على مهل وروية، ويتمثل دائما بمقولة ناقد انطباعي «أن تكون ناقدا جيدا فليس سوى أن تكون ذكيا بما يكفي» وفي شرحه الساخر لتوجهه في الكتابة يحب استاذنا مصطلح “ الخرطي” يقول لنا أسألوني ما الخرطي وأنا أجيبكم؟ ثم يشرح لنا وهم يبتسم «صاعد النخل في مدن الجنوب وقبل أن يبدأ موسم لقاح النخيل عليه أن يخرط الحشف اليابس والمعطوب المتبقي على الجذوع وعندما ينتهي من العملية ويجمع الحشف، يجد بين أكوامه بعضا من الرطب الناضج الصالح للأكل، هكذا يدبج النقاد كلامهم عن الشعر الكثير منه خرطي لا فائدة منه والقليل منه خرطي ناضج يبهج النظر والذوق».  تتلخص نظرة استاذنا للنقد بأنه أسلوب إنشائي يتناول أدبا انشائيا شعرا ونثرا وهو في نظرته هذه يأخذ وجهة خاصة به فقد رأى اسلافه من باحثي مرحلة النهضة الأدبية ومنهم «طه حسين» أن الأدب ينقسم إلى قسمين «الأدب أدبان أدب انشائي والآخر أدب وصفي، فأما الأدب الانشائي فهو هذا الكلام نظما أو نثرا وأما الأدب الوصفي، فيتناول الأدب الإنشائي مفسرا حينا ومحللا حينا ومؤرخا حينا آخر»/ الفكر الأدبي العربي، سعيد يقطين 146،. أما وجهة نظر الدكتور فهي رؤية قريبة من طروحات المناهج الحداثية في كون اللغة هي الترياق الجمالي الوحيد، وإن الكتابة النقدية خطاب بلاغي وجمالي مواز للنص المدروس وليس تابعا له، وإن للقارئ المثقف أو الذكي أرجحية منهجية على الشاعر ونصه 
الابداعي، من يقرأ كتاب «رماد الشعر»يجد فيه احالات واقتباسات عديدة من كتب الحداثة ويجد احصائيات للأوزان والبحور الأكثر شيوعا في القصائد المدروسة والإحصاء منحى معروف في الدراسات الأسلوبية، بناءً على 
ذلك يمكن القول إن الدكتور «عبد الكريم راضي جعفر» الذي ظل وفيا للمنهج الانطباعي التأثري في الدراسة والنقد الأدبيين لم يرفض الأطر المنهجية الحديثة بالكامل بالرغم من تهكمه المتواصل على الحداثة والحداثيين، وإنما كان رافضا للمغالاة في تقدير ما جاءت به الحداثة 
ورفض نقض جهود رواد الدراسة الأدبية لمجرد تقادم الأزمنة واستهجن تقليد الصرعات الثقافية وركوب موجات التغريب من دون تمحيص وروية ومراجعة للذات النقدية 
العراقية.