شهيق جماعي.. كناية عن رحلة الحياة

ثقافة 2020/10/04
...

زعيم نصار
 
الاستجابة التي تستدعيها قصيدة الشاعر عبد الحميد الصائح، تتطلب عينين مندهشتين بما ترى، تتبلور خلفهما بصيرة متوقدة، كأن الشاعر والقارئ انطلقا في رحلة نحو مكان مجهول، طريق طويلة نقرأ فيها: عن مدن قريبة وبعيدة، الناصرية، بغداد، عواصم ضبابية، حرّاس ولصوص، مطارات وقطارات، محطات وبلاد تحترق، سجناء وشهداء، متظاهرين وثوار، أمكنة وجهات، شخصيات عراقية منتقاة كرموز لمراثٍ دونتها البلاد منذ اسطورتها الأولى، حب وحرب، موت وحياة. 
هذا ما تولده قصائد ديوان (شهيق جماعي) في النفس، من رؤيةٍ لا على مستوى الأفكار فحسب، بل على مستوى المشهد الكليّ، للصور البارقة في طيّات الفضاء الذي يفتحه نسيج الكلمات المتسق والمتماسك، حيث تنبثق هذه الرؤيا في أبعاد رحلة غامضة ومجهولة، هذه الأبعاد الرؤيوية، من الممكن الإشارة إليها، لأنها تحيط مركز التجربة، وتتشظّى كبؤر أساسية في النص، فتجذبنا الإحالات، وتنادينا من دون أن تفرق بين أعراف وثقافات وأيديولوجيات ومعتقدات، تصادف السائر في الرحلة وتنفجر هزّتها في اعماقه، وربما تذهب ابعد من ذلك حيث تُعطيه نوعاً من الشعور بالتمرد واليقظة التي يجب أن تكون كلية وعامة، عامة بالمعنى الكوني، وكلية بمعنى امتزاج الشعري بالمعرفي. 
قصيدة الصائح حركة للزمن وفيه، وحركة للحياة أيضاً، وهي نوعان، قصيدة تكتب تجربتها من إملاء لحظتها القصيرة المتبلورة من بؤرة واحدة، وأخرى تستغرق وقت رحلتها في التقاط العابر، والمهمل، والآني، في طريق هذه المغامرة المحفوفة بالأمل، لتخلّده في الحياة، بما “إن الزوال هو الموقوتية الجديدة في الحياة اليومية، التي ينجم عنها مزاج أو شعور اللاثبات” كما عبر عن ذلك آلفين توفلر.
الشيء الأساس في أية رحلة هو أنها لا تنتهي، لأنها تغيّر الاتجاهات باستمرار حيث يقول الصائح في قصيدته الرحلة:
« فِي بِدَايَةِ هَذَا الْعَامْ/ نَحْنُ، أَجِنَّةَ الْفَنَاءْ/ الْعَائِدِينَ تَوًّا مِنَ الْمَجْهُولْ،/ الْمُتَّجِهِينَ مُبَاشَرَةً الى الْمَجْهُولْ/ فِي لُعْبَةِ الْمَسَافَةِ الْغَامِضَةِ هَذِهِ/ خَائِفُونَ مَنْ أَنَّ نَكُونْ،/ خَاسِرُونَ صفاتِنا فِي أسواقِ الْعَبِيدْ/ دماؤنا حِبْرٌ لِلْقُضَاةِ الزُّنَاة/ وأدويةٌ سَامَّةٌ فِي الصَّيْدَلِيَّات./ وَسِيَرُنَا الشَّخْصِيَّةُ / اِعْتِرَافَاتٌ مُلَفَّقَةٌ مُذَيَّلَةٌ بأسماءِ ضحايا الْحُروبْ. الْوَحِيدُونَ الَّذِينَ قُلْنَا: لا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرَّافِينَ وَالْمُشَعْوِذِينَ وَذَوِي الْخُدُعِ الْخَاصَّةَ./ نَحْنُ وأطباؤنا نُرْقِدُ عَلَى أسرّة وَاحِدَةً/ نَحْلُّمُ مَعَ الطُّيُورِ./ نُكْبِرُ كَثِيراً فِي بِدَايَةِ الْعَامِ الْجَدِيدْ، مَلَاَمِحُنَا وَاحِدَةْ/ نَضَعُ تَارِيخَ الْمُلُوكِ وَتَسْجِيلَاتِ/ الْحُروبِ الْقَدِيمَةِ وَنَظَرِيَّاتِ نُشُوءِ الْخَلْقِ فِي سَلَّةِ الْمُهْمَلَاتِ،/ نُقِيمُ وَلَاَئِمَ الْفَرَحْ، لَا شَيْءَ غَيْرُ الْفَرَحْ الْفَرَحِ الْجَنَائِزِيَّ الَّذِي يُشِيّعُ جيوشاً من الْمَوْتَى “ ديوان شهيق جماعي ص89. 
يصف لنا هذا المقطع من القصيدة حياة جريحة، مبلبلة، مضطربة، مترنحة في متاهة الزمان، متشبثة برحلتها بحكم غريزة البقاء، ماسكة بطرفيها، الرحيل والعودة، والرحيل من جديد، لا يلازمها الشعور ببلوغ النهاية، والوصول الى الخط الأخير، فيبدأ الرحلة مرّةً أخرى، لتغوص قدماه في رمل المجهول. 
هكذا يبهم الشاعر علينا بأقواله، فهو يعبّرُ عن الأشياء التي تتجلى له، بألفاظ وصور غير صريحة، كنايةً عن غموض رحلته، وطريقها ومغامرتها، وشعريتها اللافتة، التي تخلو من الأهداف النهائية، في كلِّ مرّةٍ تأخذه الرحلات الى مدن غريبة، كأنه يطارد بلاداً تمّ فقدانها، استعارة مثالية، لا يتوقف الشاعر أبداً عن مطاردة طيفها، قصيدة ذات دلالات وجودية هائلة، هي من صلب فلسفة الحياة، حيث ترتبط عملياً بالتأمل، والعمل على إبقاء عقولنا، متوثبة لإستعادة ما فقدناه، البلاد- الوطن، لتبقى المغامرة مستمرة، من طريقٍ الى طريق. 
وكما ورد في قصيدته فجر بغداد: “ فِي ساعتين ضَائِعَتَيْنِ سَائِلَتَيْنِ، سَائِحَتَيْنِ بَيْنَ الْوَطَنِ وَالْمَنْفَى، بَيْنَ بِلَادٍ أَرَوَّضُها فِي الْحُلْمِ، وَأُخْرَى تُرَوِّضُنِي فِي الْحَقِيقَةِ، غَرَقٌ وَعَطَشْ، رَحِيلٌ قَدِيمٌ مَازَالَ مُرّاً، وَحَقَائِبُ جَاهِزَةٌ عَلَى الْحُدودِ، حَقَائِبُ تَرْمُقُنِي بِنَظَرَاتِهَا الشَّامِتَةْ، الى اي اِتِّجَاهَ ايها الْغِيَاب/ الى الْمَنْزِل أَمْ للأقاصي ثَانِيَةً، حَيْثُ تَتَعَادَلُ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، كَفَّةُ الْفَرَحِ وَالْحُزْنْ وَالْحَرْبِ وَالْحَيَاةِ” ديوان شهيق جماعي ص 47. 
الصائح في عمله الشعري ينشد كمال الذات والحريات، فيظهر كلّ رغبته في العطاء، واحساسه بالغنى، وتخففه من الأثقال، وحاجته الى التحليق مع لغة أصيلة خالية من الاعتباطية، قصائد مستمدة من تجربته الشخصية إلى جانب معرفته الواسعة والعميقة بتاريخ بلاده والعالم من حوله، مع استثمار لامع لقواه التخيلية، حتى كأن قلمه يستنشق الحياة، برحلاته المتعاقبة، ليحوّلها بزفيره شعراً وخيالاً. 
فنجد الصائح يقول: “بلْ عنْ شهيقِ ريشَتِه/ وزفيرِ الخَيالِ/ ورعشةِ الحروفِ على جَسدِها،/ عنْ تلكَ الليلةْ/ ليلة افتضَّ الشعرُ ستائِرَها، فأبدلتِ الكلماتُ أرواحَها ومعانيها/ وارتكابِ المَعصيةِ التي أدّتْ اليها” قصيدة ( القصيدة والذئب).
هنا الشاعر ينطلقُ من واقع وطنه، بكل تناقضاته وجمالياته، فيسمّي رحلتــــَه حياةً، ويدرك ان طبيعتها الموت. نستطيع مع هذا الضوء المأساوي، ان نردَّ العالم لخطته الدرامية بين طرفي الوجود-الرحلة، ونشخص الراحل منها، والعائد إليها، كقوسين يجيد فهمهما الشاعر بوصفه مسرحياً متخصصاً، فيدور بينهما حاملاً مشعله، في هذا الظلام لإنارة وقائعه التي حدثتْ والتي لم تحدث. 
هذان الطرفان هما مجالا الحضور والغياب، شقاء وامحاء، اختفاء في الزمان واستعادة له، من اجل التمكن من الأبدية واقتناصها، حيث يشكلان لنا نوعين من المعرفة، ونمطين من العيش، واسلوبين من التجربة الشعرية: يدوران في مدار واحد لثلاثة اقطاب مركزية، الإنسان، الوطن، المنفى أو العالم.
فيضع الشاعر كلَّ شيء تحت ومض التساؤل، لنجد كلّ لحظة من لحظات التجربة وقد تشظت بؤراتها المركزية، الى نثار من المعاني، التي تطالب كلّ قارئ فاعلٍ ان يجمعها لإنتاج تأويله الجديد، أما أنا فلم أنسَ هدف الرحلة التي هي ذاتها الهدف، استمتعتُ بها، لأنها هي السر الحقيقي لعبورنا القصير عبر العالم.
 هكذا نقرأ في شهيق جماعي: “ بَلْ هُوَ نَشِيدُ الأرواحِ الَّتِي تَعَذَّبَتْ وَجَاعَتْ وَفَقَدَتْ أوطانَها/ وَاعَادَتْ الى الزمنِ اللَّيْلَ وَالنُّهَّارِ الْذَيْنِ لَمْ يُسْتَعْمَلَا فِي الرحْلَةِ الخاطفة، بَيْنَ الْمَجْهُولِ الَّذِي غَادَرْنَاه تَوًّا/ وَالْمَجْهُولِ الَّذِي نَصْلْهُ الَانْ.” قصيدة الرحلة ص 91.
« وَبَنَى بِلَادًا مُسَوَّرَةً بالأبدية فِي سَاحَةِ التَّحْرِيرِ، الَّذِي أُرْسِلَ فِي رِحْلَةِ الدِّمَاءِ الَّتِي لا تَجِفْ/ قَالَ: خُذُوهُمْ صِغَاراً فَانِي انا الشَّاهِدَ الَّذِي لا يموت/ خُذُوهُم الى بِلَادِ الْمَلَاَئِكَةِ، الى جَنَّةَ عَرْضُهَا الْعِرَاقَ” قصيدة الشهداء ص 63.