الفلسفة الأميركيَّة «البراغماتيَّة»

ثقافة 2020/10/09
...

 عفاف مطر
 
بالمجمل كانت الفسلفة الاميركية (البراغماتية)، متأثرة بالفلسفة الأوروبية، لكنها اتخذت شكلا خاصاً بها ونكهة مختلفة، ويمكن القول إن الفلسفة البراغماتية الاميركية نشأت مع نشوء اميركا، من النصف الثاني للقرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين على يد الثلاثي الشهير تشارلز بيرز ووليام جيمس وجون ديوي؛ ومن الطبيعي أنها لم تتمكن من التخلص تماماً من الرصيد الفلسفي والمعرفي الاوروبي، حيث إن الفلسفة الاميركية المعاصرة نشأت على أعمدة الفلسفة الايطالية والفرنسية والانجليزية التي كانت لها الريادة في عصر النهضة، وبالتالي هي نتاج للمدارس والمذاهب الفكرية الاوروبية. لم تتأثر الفلسفة الاميركية فقط بالفكر الاوروبي وما وصل اليه وحسب، بل بالأحداث الداخلية والعالمية أيضاً، فبعد حرب الاستقلال ونشوء الولايات المتحدة الاميركية بشكلها الحالي، نجد أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية كانو إما ملاحدة أو لا دينيين ومنهم من كان يؤمن بالذات الالهية لكنه لا يؤمن بالمسيحية، المفارقة أن الشعب الاميركي حينذاك كان مؤمنا مسيحيّاً. 
ولو رجعنا الى العلمانية الفرنسية التي سبقت الاميركية لوجدناها ضد الدين أي ضد التفكير الكهنوتي ومع التفكير العلمي، أما العلمانية الانجليزية استطاعت أن تجد توازناً بين الدين والسياسة والفصل بينهما، حتى اننا نستطيع أن نصفها بأنها علمانية صديقة للدين، أما العلمانية الروسية أو الماركسية فكانت اشد عدواة للدين من العلمانية الفرنسية، أما الاميركية فهمي علمانية يمكن أن نطلق عليها علمانية دينية، بمعنى أن الشعب الأميركي مسيحي متدين، بينما النخبة السياسية والثقافية ليست متدينة أوملاحدة أو لا دينية، وهذا كله أثر في الفكر والفلسفة الاميركية، ليس هذا فحسب، بل الحرب الاهلية الاميركية كان لها تأثير عظيم في هذا المجال، يضاف اليها الحرب العالمية الأولى، في ضوء كل هذا صاغ الاميركان أفكارهم. في يومنا هذا الشائع عن البراغماتية أنها التفكير في المصلحة، فحين نقول إن شخصا ما براغماتي، كأننا نقول إنه يؤثر مصلحته على أي شيء وتصل الى حد الشتيمة فشخص براغماتي هو شخص انتهازي، ويُعرف عن الاشخاص البراغماتيين أنهم يتبعون قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، وكل هذا الكلام بعيد عن الفلسفة؛ إلا أن له صداه في الأفكار الفلسفية.
 
المنفعة والأخلاق
 الفلسفة البراغماتية هي ابنة المدرسة التجريبية النفعية الانجليزية وهي مدرسة مهتمة بالعقل الحسي ودراسة الظواهر عبر التجربة والحواس، وهذه المدرسة تعتمد على عنصرين، المنفعة والاخلاق. لهذا يفضل محللو الفلسفة ترجمة البراغماتية الى فلسفة العمل أو الفلسفة العملية. فكرة البراغماتية بدأت حقيقية مع بيرز الذي كان أكثرهم غرابة في التأليف والكتابة ويعود ذلك الى تأثره بالطريقة الألمانية، حيث استعمال المصطلحات بكثرة واللجوء الى لغة أعلى من مستوى المثقف العادي، فلا يقرأ له إلا المتخصصون في الفلسفة، أما ديوي وجيمس فكانت كتاباتهما أكثر قربا من الروح الاميركية ويفهمها المثقف البسيط. زكي نجيب محمود في كتابه حياة الفكر في العالم الجديد، وصف الثلاثة كما يأتي: تميز بيرز بالمنطق العلمي، وغلب على وليام جيمس معيار النجاح، اما ديوي فغلب عليه تغيير القيم والانشغال بتطويرها وسيلة لتطوير المجتمع للحصول على نتيجة ومصلحة افضل. الفلسفة البراغماتية التي أسسها الثلاثة غلبت عليها الاهتمام بالنتائج، على العكس من الفلسفة الانجليزية التي اهتمت بالمقدمات وتفسير العالم، إذ وضعت الفروض وعملت على تجريبها واختبارها ومن ثم وضع النظرية المناسبة لتفسير الواقع، وهي بذلك تشبه الفلسفة الماركسية المهتمة بتفسير العالم، اما البراغماتية مهتمة بتغيير العالم أو تشييد عالم جديد عبر فلسفة اكثر عملية واكثر ارتباطا بالواقع الاميركي.
 
وليام جيمس
 ويعد بيرز هو المؤسس الأول والأكبر والمنظر للبراغماتية، أما وليام جيمس فعمل على وضع نصوص أدبية محببة للجمهور لتقريب فكرة البراغماتية، أما ديوي فقد جعل من موضوعة التربية الديمقراطية المحور الاساسي للبراغماتية. البراغماتية حسب مفهوم بيرز وباختصار هي الفلسفة المهتمة بالنتائج أكثر من الاسباب؛ وهي بذلك تشبه فلسفة (السفسطائيين) حين قال برتاغوراس «الانسان هو مقياس كل شيء»، ولا توجد قيمة خارج الانسان، لذا عبر عنها جيمس –اعني البراغماتية- بأنها أفكار قديمة بثوب جديد. 
لهذا تركز البراغماتية على قيمة الفرد وما ينفعه وينفع المجتمع. والبراغماتيين يدعون الى استعمال طريقة المصنع، وذلك نتيجة التأثر بالثورة الصناعية حينذاك، اي استعمال النظريات التي تنفع الانسان على ارض الواقع. ويطبقون على الافكار ما تطبقه الصناعة على السلع. ويقول ديوي إنه يجب علينا أن نستحضر فكر المصنع، بمعنى استحضار الافكار ومراقبة تأثيرها في أرض الواقع، فمعيار البراغماتية هو الأفكار الأكثر فائدة للانسان عملياً، وبذلك البراغماتية هي فلسفة ولِدَت من رحم العلم والواقع بعيدة كل البعد عن الفلسفة المثالية التي 
سادت.