هل من متسع للثقافات القوميَّة؟

ثقافة 2020/10/09
...

ياسين طه حافظ
 
قبل التعليل الفلسفي لنتساءل عما يثير المشاعر القومية ويؤججها؟ الشعور القومي ظاهرة اعتزاز ومحبة للانتماء، الانتماء إلى الأرض- الوطن والتراث- ثقافة والتاريخ أحداثاً. هنا يضاف لها صنع مستقبل غير منفصل عما كان، ما سبب هذه الإضافة؟ السبب مشترك مع مراكز الانتماء التي سلفت.
أما ما يستدعي تلك المشاعر وذلك الانحياز فهو الإذلال الجماعي، الحرمان من امتيازات الأرض وتقصد المساس بالمعتقدات أو الشعور بالخطر عليها. وهذا ما شهدناه عندنا في ما يسمى بثورة العشرين أو ثورة النجف، (التسمية الثانية تنفعنا في الكتابة وتنفعنا في وصفها الدينية-القومية). وقد يكون ما حصل في الجزائر مثيلا لهذا بوجه عام فهي أيضاً دينية- قومية، وإن كانت أوسع وطنياً، وقد نجد أسباباً أخرى غير ما كان لثورة العشرين وثورة الجزائر. 
فما حدث على الأراضي الألمانية سببه أنها ظلت على أطراف النهضة الكبيرة لأوروبا الغربية. هو تهديد آخر وهو إهانة، أن تشعر بأنها دون وبأنها مهملة ولا شأن ثقافياً كبيراً لها في القرن السادس عشر وهو قرن إبداعي كبير. لقد كان النشاط الإبداعي في إيطاليا وفرنسا وفي انجلترا وأسبانيا كبيراً وظلت المدن الإلمانية ريفية بالنسبة لتلك الدول.
أرى من الخطأ أو مما يؤاخذ عليه ويشك في صوابه أن نعزو ذلك دائماً إلى حضور الأجنبي على (الأرض - الوطن) فالعصر يشهد تعاوناً بين الشعوب والدول في الاستثمار والإعمار والشؤون الدولية وتقام أحلاف، في ألمانيا قواعد نووية اميركية لا تمس الروح القومي الألماني، ولكنها ضمن الدفاع المشترك، لا المتسلط الاستعماري ولكن الشريك المتعاون على ستراتيج يهم ألمانياً أيضاً.
وجود قوى متجبرة لا تحترم قومية البلاد ووطنية الناس، سبب رئيس ودائم للتذمر ولإحضار الماضي قوة مساندة بوجه الأسلحة والثقافة والمشاريع المريبة.
حتى الآن يكره الناسُ البسطاء – أو العوام الانجليزَ وتكره قطاعات واسعة الأميركان بسبب ما لحق بكرامة الناس من إذلال ولامبالاة بمشاعرهم. قضية فلسطين كان لها دور في التأجيج القومي –(ولا نغفل هنا تشجيع الشعور القومي في الحرب الباردة مضاداً للأممية) ولا تزال القضية الفلسطينية سبب سخط لقطاعات واسعة من الشعوب العربية – قومياً والإسلامية – دينياً. وهكذا اتحد السببان اللذان ذكرناهما في الحديث عن ثورة النجف والجزائر. 
نعم للتاريخ وللتطور الثقافي المجتمعي دور في تغيير درجة هذا الرفض، لكنه يظل مؤسفاً. الاستياء من الدونية ينتج عنه ردّ فعلٍ، الأول كراهة واستياء والثاني بعيد عن هذا قليلاً، يداعب رغبات النخب في عوالم أفضل من عالمهم المتخلف. متطلعين إلى الخلاص منه باتجاه التطور في الثقافة والنظم الإدارية واحترام حقوق الإنسان (والرفاه الاقتصادي) والحريات. هذا لا يلغي الشعور القومي ولكنه لا يجعل منه هدفاً أولاً.
 وهنا سنجد أسماء ترعى هذا التوجه، موكل إليها العمل على إشاعته لتأكيد وجودها مثلما ضد النزوع الأممي للاتحاد السوفيتي ثقافياً، سياسياً ولد هذا شعوراً سائداً في الجهة القومية المقابلة بأنها لم تلعب دورها بعد وانها سيكون لها دورها في دراما التاريخ الكبرى، ومثل هذا الشعور اتضح في ألمانيا وتجاوز حدوده، وبعدهم البولنديون والروس ومن بعدهم كان الشعور القومي العربي بأن دولة عربية كبرى قادمة وسيكون لها شأن. ومع تقديرنا لأسباب هذا فإن بعضاً من الرومانطيقية التي تنامت، حاضر في هذا التصور، لكنه أساساً يقع ضمن البحث عن حل وضمن تنامي الرغبة في الحضور الواضح في العصر. وتنامي 
الثقافة والتنظيمات السياسية في العالم الجديد.
روسيا، الصين، السلافيات انفردت بفلسفاتها – شعوب مثل الشعوب العربية (أو الأمة العربية) احتفظت بميراثها الديني ومبادئها الثقافية، وأيضاً بالنتاج الثقافي الغربي. هذه الازدواجية مثلما هي سبب للاحتفاظ بشيء مما كان، هي بالتأكيد، عامل عرقلة للتقدم نحو جديد الغرب ومكاسبه. كما نتج عن ذلك ثقافة حديثة غير متماسكة إلى جانب ثقافة متوارثة أوسع، وخط التقدم متعرجاً يسير بينهما أو من محصلتهما. لكني، مما نشهده في السنوات الأخيرة أعتقد بأن التقدم الكبير في الآداب والفنون والفلسفات والتقدم العلمي والتقني هناك، يجعلنا نقدم المزيد من التنازلات لنحقق ألفة من نوع ما. 
فما عندهم من تقدم صار حاجة لنا وحاجة مطلوبة! ومع هذا وذاك من الأسباب أرى أن الثقافة العالمية تتقدم في العالم كله. مفتوحة لها كل الطرق والنوافذ، وهذه الثقافة العالمية جذابة ويريدها الجميع، لاسيما النخب الفاعلة والأجيال الجديدة، ماذا وراء هذا بعد قرن أو نصف قرن؟ لا أجيب!.