عبر المرافئ الصغيرة، ظل عاصم حافظ يموه بالألوان صور الأشياء ومشاهد الطبيعة، غير آبه بصوت الحياة العميق، ولا بأمواجها التي تتدافع وتتدفق بسخاء كبير خارج حدود منزله، ثم تراكم الجديد فوق الجديد، تمحو وتبدع وتستبدل وتغيّر كل وجوه الأشياء.
وهو باق في ذات النقطة من عالمه الأثير، يزاول مطاوعة الطبيعة في التمثيل، والطبيعة تنأى عنه بمقدار ما يقترب منها، لكنه رغم ذلك، كان لا يحس بهذه الممانعة، ليكرر الوقوع في شباك الرسم مرة تلو الأخرى، مأخوذاً بسحر (المماثلة) التي كانت هدفاً يتنافس على مراكض رهانها، كل أولئك الرسامين الذين عاشوا في دائرة زمانه: عبد القادر الرسام، محمد صالح زكي، محمد سليم الموصلي، وغيرهم.
عاصم حافظ المولود في الموصل عام 1886 من جيل التشكيليين العراقيين الأوائل، أكمل دراسته الأولية في الموصل، ثم قصد بغداد ودخل المدرسة الرشدية العسكرية فيها، ثم سافر إلى الإستانة ليغدو ضابطاً في الجيش العثماني، سافر الى باريس ودرس الرسم فيها على يد الفنان انطوان رينولف للفترة من 1928 لغاية1931، عاد بعدها إلى مدينته الموصل، ليدرس أبناءها الفن التشكيلي، حاثاً إياهم إلى النقل من الطبيعة، لتمسكه وتبنيه هذا الاتجاه في الرسم، وحبّه لها، وانتمائه لها، فالفنان حافظ طبيعي في الإسلوب، تحولت الطبيعة لديه إلى منحى روحي، عمد إلى رسمها صافية، باعتبارها تمجد الخالق وتغني آلاءه العميقة، تمتد أمام عينيه حضارة تأبى أن تندرس، آشور والحضر، حيث الآثار ماثلة في كل شبر من الأرض محيط به.
في حوار للدكتور أكرم فاضل مع الفنان عاصم، يقول: لا أنتمي لمدرسة، إنما لدي إحساس بالواقع الجميل، واترك القبح لأهل القبح، انا بعيد عن المسميات (تأثري، تعبيري، متوحش، أنا واقعي فقط، أنا كلاسيك وأحب الكلاسيكيين). وتحدثنا أعماله اهتمامه بهذا الأسلوب. كأسلوب تعليمي درّسه لتلامذته، محاولاً أن يستثمر موارد ثقافته من أجل هذه الرؤية، التي أسبغها على أغلب أعماله وفي كل مراحله الفنية.
إنشغل حافظ في (بعد الطبيعة) الجانب الأكبر في أعماله، لانه يجدها الصيغة الأكثر صدقاً في تحديد إسلوبه، أقام أول معرض له عام 1934، كما نظمت له جمعية الفنانين معرضاً شخصياً عام 1960.
عمد عاصم حافظ إلى تكثيف طاقاته الإبداعية في رسم الجماد والماء والشجر، وأعطى للمشاهد قدرة الإحساس بالعالم من حوله، عالم يومض ويتحرك، ويبعث الأصوات، ووضع المتلقي في السبيل لاكتشاف المنابع الحقيقية للجمال، واصل عمله الشاق بأعمال فنية تجاوزت المئات، ربما ذهبت أدراج الرياح كل المحاولات في جمعها والحفاظ على هذا الموروث الثمين.
ظل عاصم يرسم في حضرة الطبيعة، دون أن تغادر حدود إسلوبيته، واستمر يغري المشاهد بالتطلع إلى جمال اللون وتناسقه، وحقيقة الشمس والضوء والظل، تتوهج باستمرار، معلنة عن تفتح فردوس من الأسرار وضيء، شفيف وضبابي، فتتحول اللوحة لديه إلى حديقة ألوان مزدهرة، إن هذه الومضات، تلحّ علينا بأن نعيد إلى الذاكرة، هذه الرموز التي أنضجتها السنين والخبرة والتجربة الطويل لكي لا يطويها النسيان، وأن نبحث في أعمال هؤلاء عن شيء ضائع لا نعرفه، ولكنه في الوقت نفسه مختزن فينا.
قطع الفنان عاصم حافظ رحلة الثمانين عاماً مرتحلاً باحثا عن الفن في بغداد والموصل وباريس واستانبول، ارتحل إلى أرض الصمت عام 1978، خالداً بما رسم وأحيا على القماش من صور ومشاهد، حياً بما أفاض.