تلسكوب نوبل يرصد نجمة شعريَّة على الأرض هذا العام

ثقافة 2020/10/11
...

تلسكوب

لويز غلوك

هنالك لحظةٌ بعدَ ما تحرك عينكَ بعيداً،
عندما تنسى أين أنت
لأنكَ كنت تعيش، كما يبدو،
في مكانٍ ما، في صمتِ سماءِ الظلمة.
لقد توقفتَ عن الحضورِ هنا في العالم.
أنكَ في مكانٍ مختلف،
مكانٍ حيث الحياة البشرية ليس لها من معنى.
أنت لستَ مخلوقاً في الجسد.
أنت تحيا كما تحيا النجوم ،
مشاركاً إياها سكونَها، واتساعَها.
ثم ها أنت في العالم ثانية.
في الليلِ، على التل البارد،
تفكك التلسكوب.
أنت تدرك بعد ذلك
أنْ ليس الصورة زائفة
لكن العلاقة خاطئة.
إنك تبصرُ مرة أخرى كم هو بعيد
أيُّ شيء عن أيِّ شيء آخر.


عبدالزهرة زكي
 
للوهلة الأولى تفصح هذه القصيدة عن بساطة لا متناهية، وهي بسيطة حقاً، لكنها تخفي تحت هذه البساطة عمقاً قد لا يتكشّف للقارئ في تلك الوهلة الأولى.
هذه قصيدة تكثّف موضوعها في شأن جوهري، في التحام الإنسان بالطبيعة والكون وفي انقطاعه عنهما في الوقت ذاته.
مثل هذا الموضوع سيكون اختباراً عسيراً للشاعر/ة، في الغالب يجري الهروب في هكذا قصائد نحو التعقيد (والتعقيد هو ليس الصعوبة بالضرورة)، وكل تعقيد ورطة يضيع فيها الشاعر والشعر ويتحرر منها القارئ بالتحرر من سطوة النص والتخلي عن مشكلاته والانفضاض عنه. في أحيان أخرى من أحيان كثيرة يقدِم فيها الشعر على الانشغال بصلة الشاعر بالطبيعة والكون فإن الشعر يتخلى عن نفسه ويستسلم لتفكير ذهني بارد وجاف، لا قيمة له في فن الشعر ولا يؤخذ جدياً في تأملات الفلسفة. الشعر تجربة في الحياة يمكن أن تستشف منها الأفكار والتأملات والرؤى، وهذا ما فعلته الشاعرة بقصيدتها.
تنشغل القصيدة بتجربة لحظةٍ من لحظات المراقبة الإنسانية لامرئ والتي ينفصل عن الحياة، حيث يقيم ليلتحم بالكون والطبيعة ثم يؤوب بخلاصة يأتي بها الشعر، لا المرء الهائم ما بين سماء وأرض. تلك هي لحظة مراقبة شعرية، وهذه هي قيمة القصيدة، وقيمة الشعر بشكل عام، في استخلاص جواهره من تجربة حياتية يومية متكررة وعابرة.
ترصد الشاعرة في قصيدتها رجلاً على الأرض فتراه هائماً في مكان آخر، في السماء وظلمتها ونجومها عبر تلسكوب منصوب على تلة باردة.
القصيدة تختطف لحظةً من لحظات (عمل) الرجل، وقد يكون عالم فلك أو هاوياً، وهي لحظة يكفّ فيها الرجل، كما تراه القصيدة، عن صلته بالمكان الذي هو فيه فيلتحم بالنجوم. ما يحضر في القصيدة هو الإنسان، بشكل عام، وتحضر معه صلته بالكواكب والطبيعة والفضاء وتوقه للتحرر من المحدودية الأرضية وللحياة هناك. إنها لحظات حضور وتحرر المرء من قيده المكاني كلما كان المرء بصدد التأمل والمراقبة في الكون الرحب، وهي لحظة تنتهي بانتهاء التأمل والمراقبة، بتفكيك التلسكوب، ليجد نفسه ثانية في العالم ثانيةً في الليل، على التل البارد.
تنتهي المراقبة الشعرية بانتهاء دورة المراقبة والتأمل التي يحياها إنسان القصيدة في رحاب الكون، لكن القصيدة تُختتم بخلاصة شعرية كثيفة الدلالة عن المفارقة ما بين الحياتين؛ حياة الإنسان على الأرض، وحياة توقه ليكون في الكون الرحب. 
تكرّس هذه الخلاصة محنة الإنسان في عزلته ووحدته وإدراكه أخيراً لعجزه، ببعد المسافة (الصلة) ما بين الشيء وأي شيء آخر. بمثل هذه الخلاصة الشعرية التي تنتهي إليها الشاعرة فإنها تؤكد مسعاها الشعري بحركة الشعر، في ضوء تجربتها، ما بين الأرض والسماء، ما بين التفصيل الحياتي اليومي المعتاد والمألوف وما بين التجريد الشعري الكوني للحياة وتطلعات الإنسان وخيبته فيها. وأحسب أن هذا الاشتغال الشعري هو بعض من جهود شعراء العصر المتأخرين في استعادة دور الشعر الرؤيوي وحضوره ثانية في الصميم من محنة الشاعر والإنسان، بشكل عام، في حياة ما عادت الثقة بها تكفي للتصرف فيها باطمئنان وثقة.
قصيدة الشاعرة لويز غلوك تقدم مثالاً عن تجربتها العميقة في مراقبة الحياة ويومياتها والانطلاق من هذا للتأمل بالوجود والكون.
كان هذا من مبررات منح الشاعرة نوبل هذا العام كما يؤكد ذلك تسويغ اللجنة لدواعي منح الجائزة لغلوك كتقدير لصوتها الشعري الجليِّ بالجمال البسيط والذي يحيل الوجود الفردي إلى كوني. 
فوز شاعرة مثل غلوك بنوبل سيظل حدثاً استثنائياً حتما في حياتها، لكنه أيضاً استثنائي في سيرة الجائزة، من حيث فوز الشعر من خلال هذه الشاعرة ومن حيث الحدود المحلية الأميركية لانتشارها والأهم من حيث مزايا تجربتها الأصيلة. هذا بعض من الأسباب التي سيكون هذا الفوز بموجبها واحداً من المحطات الإيجابية التي لا تنسى في تاريخ مؤسسة نوبل وسيرتها المثيرة للجدل دائماً خصوصاً في حقل الأدب.
 
• القصيدة مأخوذة من موقع
 The Floating Library.