قبل نحو عقدين من هذه اللحظة، في منطقة صغيرة في احدى مدن بغداد العريقة، ولد ننو العجيب. لم يعرف أحدٌ قبلا منْ والد ننو، ولا، لم تلتقي نسوة تلك المنطقة بوالدته وليس له اخوة أو أقارب كذلك، ولو سألنا أُمّ صلاح القابلة المأذونة الشهيرة وهي التي ولّدت أجيالا إثر أجيال في هذا المكان وأصبحوا عائلات، لما أخبرتنا بشيء عنه أو عن نسبه أو عن أول صرخة أطلقها في فضاء الغرفة. لكنّ الوقع الغريب الذي جرى وقد انطوى على صبغة الكوميديا المحببة لدى الناس، هو أن تقول لأحدهم: ألا تدري؟ لقد تعرض لحادث اليوم، صدمته سيارة ونقلوه الى المشفى دون أن تفصح عن اسم ذلك الشخص أو تأتي بصفةٍ أو لقبٍ يفضحه، فيجيبك الآخر بملامح تتوكأ على القلق: من، من؟ فيضحك السارد ويقول له:
ننّو.
وفي حال أخرى يحدث أن يقول أحدهم لهذا الآخر، الذي من الضروري أن تنطلي عليه الحيلة هذه وإلا لن ينجح المشهد وتبرد أعصاب الدهشة وتسكن ردود الفعل المصدِقة: أما تدري؟
لقد ذهب لشراء بعض سجائر السومر بالمفرد وبينما كان يقطع الشارع بدراجته الهوائية وفي عزّ الظهر، وبسرعته القصوى، صدم طفلا في الخامسة من عمره، ثم هرب.
وشاهده أحد الجيران، كان يرشُّ الحديقة، ويختفي جسمه بين ظلّين متكاثفين يصنعهما الجدار والأغصان الشرسة لشجرتي النارنج والسدر وتتبّع أثره بين الأزقة وفضحه أمام الجميع. فيقول الآخر الذي لمس من خلال حرارة الكلام أنه شخص لهم صلة به: لاااا، ثم يستدرك بمن من؟ مرتين او ثلاث على الأكثر، فيقول له صاحبه حاملا تلك القفلة مثل قنبلة صغيرة ستنفجر: ننّو. تعقبها ضحكةٌ ماكرة تظل عالقةً على فم صاحبها مقدار ما ظل المتلقي لتلك الحتوتات منفعلا ومتأثرا بما
سمع.
شاعت هذه الحركة الكوميدية الشبيهة بمقلبٍ ظريف وتشربتها المجالس الخاصة والمقاهي وحكاوي الطريق لقضاء المشاوير، وفُضح ننّو بجميع أدواره التي ظهر فيها كشخص شرير ومريب أو بائس وسوداوي، شاب ومسنّ أحيانا، متزوج وأعزب، حيث يكون مرةً هو المذنب ومرات هو الضحية، وأخريات مجرد أدوار صغيرة تحتاج الى مهارة ودقة في اختيار الوقت المناسب لضغط زر اطلاق الحتوتة، ومنها دراسة تفاصيل الآخر وانهماره في موضوع جاد، والانتباه على حركات العينين والوجه اللتين تشيران الى أنه فقد حذره أو نسي قليلا هذا الفخ المدعو ننو، فيكون هو الوقت المناسب للإيقاع بهذا الجمهور الضئيل. ساعدت الأجواء الشعبية للمنطقة من مقدسات ومعجزات وكرامات وخرافات على نشوء ننّو العجيب، ننّو الذي يعرفه جميع سكنة هذه المنطقة بل ويخصهم وحدهم، فهو نتاج الصدفة وطريقة العيش التي اعتمدت فيها الناس على النكتة لتمرير الأيام الداكنة بما فيها من جوع وقهر وآثار
حروب.
وذات صباح وجدت مجموعة شبانٍ جثة ابن المختار ملقاةً بالقرب من حائط المدرسة، مدرسة عدم الانحياز، واشتعل فتيل الفوضى، واهتزت اركان الازقة الساكنة النائمة على أطلال الحكايا والمشقّة والنكات، وتدَخّل رجال يجدون في أنفسهم أنهم وجهاء المنطقة ومن مسؤوليتهم اكتشاف هوية القاتل وحلّ القضية، ثم تدخلت عجائز ناقعات بالنذور والأقدار والمرايا الكاشفة لكل ما هو مخبوء ومتوارٍ لتحديد ملامحه الضبابية. وأعلنت السلطات أنها ستعرف القاتل قريبا، وأنهم يمتلكون مخبرين سريين زودوهم بمعلومات جوهرية ستؤدي حتما الى القبض على المجرم. وهكذا وعلى هذه الدوائر، كان المختار مطمئنًا الى حد ما، فهو على الأقل أمام هذه الوعود والعهود سيجيء الوقت الذ ينظر فيه الى عينيّ قاتل ولده، وسيسأله: لماذا، لماذا بحرقة عدة مرات إلى أن تجفَّ عروقُ صوته وينشف الدم في وجهه، بينما ينظر اليه القاتل بخجل وخوف، بعدها يساق الى الاعدام
مثلا.
ولكنّ شيئا من هذا لم يحدث، ومضى شهران على الحادثة، يبست خلالهما دماء رسول ابن المختار، وتبرعت احدى النساء بإزالتها من الرصيف وحائط المدرسة لما لها من أثر ممقوت زرع تصورات مرعبة لدى الاطفال وأرهب لعب المراهقين ونزهات البقية من نساء ورجال وعائلات أوقات العصاري الى حين وقت
الغروب.
لم يستطع إخوة رسول الكبار تحمّل نظرات الناس، ولا الصبر أكثر على تلك العيون والثرثرات الصغيرة التي تنزلق الى مسامعهم بين حين وحين، وهي تشير الى تساؤلات تقلق النفس البشرية وتفحمها وتفقدها توازنها، مثل كيف أنهم ظلّوا هادئيّن منتظرين من يأخذ لهم بحق رسول من قاتليه؟ وكيف أنهم تحمّلوا طوال هذه الأسابيع عدم الاقدام على أي فعل؟
هل هم بلا عشيرة؟ أم عشيرتهم ضعيفة وأفرادها في شتات؟ وهذه سمعة تشي بمصائب لا نهاية لها من الاعتداءات لو ثبتت عليهم إذ سيتعرضون للاستصغار والتعنيف والتهجم دون التفكير بالعواقب المعتادة.
كذلك لم يعد بمقدورهم البحث عن رؤوس أخرى لخيوط واهية لا يعلمون الى أين مؤداها.
ولذ اقترح عليهم حليم الأخ الأوسط وقد كان رجلا حادَّ الذكاء معروفا بفطنته، حلّا لهذا الحرج، وأخبرهم بأن يقنعوا الناس بأنه عرف القاتل وسيعود بعد يومين أو ثلاثة بالكثير ومعه فرحة الأخذ بثأر أخيهم إذ أن القاتل فرّ الى منطقة أخرى تقع في احدى ضواحي بغداد ولم يخبرهم أين بالضبط وهو بذلك يؤكد لهم ضمنيًا بأن القاتل ينتمي لمنطقتهم هذه التي يعيشون
فيها.
ففعلوا مثلما أراد، وقد كان للنسوة دورٌ أساسيٌّ في تثوير جمراتِ اللعبة، وجعلها مشبوبةً على آخرها، حتى امتلأت الناس فضولا في انتظار اكتشاف شخصية القاتل وتفاصيل وأسباب تلك
الفعلة.
طوت الليلة الاخيرة سجلها وانتهت مدة الانتظار المربكة وقد كانت ساعاتٍ مهلكةً، لأنها يمكن أن تثير فتنةً وأنهارا من الدم إذا لم يصلوا الى حل نهائي في هذه القضية، وهرعت حشود من الناس الى حيث وجدوا القتيل ، قرب احد جدران المدرسة، وقد جُذبوا من مساكنهم حين تسربت إليهم أخبارٌ عن وجود القاتل هناك، ولما وصلوا الى تلك البقعة الظلماء رأوا مشهدا لم يألفوه من قبل في حياتهم اليومية ولا في مشكلاتهم المتعارف عليها، وكانت هناك جثة أو ما يشبهها داخل أكياسٍ للطحين، ملفوفةً بإحكام دون أن يظهر شيءٌ واضح من معالم تلك الجثة سوى هيأتها، والى جوارها نقشٌ يُرعش القلب منقوشًا بدمٍ لا يزال طازجًا “ ننّو القاتل “ .
بكتِ الناس لحظتها مرتين، مرةً لهول خسارة شاب مهذب مثل رسول ومرة لحزنهم وحبهم لننَّو الذي لم يعرفوا عمره أو طوله أو يروا شكله من قبل، لكنهم أحبّوه فقد كان يعيش بين جميع سكان المنطقة كفرد من أفراد عائلاتهم، إذ يرتبط ذكره دائما بالضحكة والسعادة، ومن وقتها لم يسمع أحدٌ شيئا عن ننو
العجيب.