محمد صابر عبيد
تبدو هذه المفردة "الأرشيف" وكأنها مفردة بسيطة وسياقية وكثيرة التداول على مستويات لا حصر لها، وهي تعني الأماكن التي توضع فيها الملفات الفائضة عن الحاجة مؤقتاً والحفاظ عليها لتكون في متناول اليد وقت الضرورة، ويمكن أن يكون قسم من هذا الأرشيف سرياً تحفظ فيه مجموعة من الوثائق التي لا يصح الاطلاع عليها، فتوضع في أرشيف خاص تحت حراسة خاصة لأن كشفها قد يسبّب ضرراً مادياً أو معنوياً لكثير من الناس، فصار الأرشيف على هذا النحو ذخيرة معلوماتية تحوز على ملفات مهمة لأغراض مختلفة، وصارت ذاكرة الحاسوب اليوم أو حتى ذاكرة الهاتف الخليوي قادرة على حفظ هذه الوثائق على نحو أسرع وأقلّ جهداً، على الرغم من أنها تبقى عرضة للتلف أو المحو أو السرقة إذا ما تعرّض الحاسوب أو الهاتف لعمليات قرصنة وتهكير وغيرها.
الشاعر الراحل محمود درويش كان حريصاً جداً على أشيائه الخاصة بحسب شهادات كثيرين من أصدقائه القريبين منه، ومن ذلك النسخ الورقية الأولى لقصائده التي لم يرَ أحد من أقرب أصدقائه ورقة واحدة منها على الإطلاق، واعتذر ممّن طلب منه ذلك في وقت ما، وفي أواخر حياته حين احتاج مبلغاً من المال عرض هذه الأوراق على إحدى الجامعات الغربية لبيعها، ومعروف عن محمود درويش أن ينفق كثيراً من الأموال بلا حذر، ولولا أنّه يدرك قيمة هذه الأوراق وما يمكن أن تدرّه عليه من أموال لجعلها في متناول الجميع من البداية.
وبالتأكيد لسنا هنا في موضع نقد لهذا السلوك الخاص بشخصيّة الشاعر، بل على العكس هذه شهادة في صالحه إذ من حقّ المبدع أن يستثمر كلّ ما يتعلّق بتجربته الإبداعية في أن يعيش بحرية ولا يحتاج أحداً، وهذا نوع من الاستثمار السليم لمنتجه الأدبيّ بما يعطي قيمة يستحقها لهذا المنتج فضلاً عمّا يحققه من فائدة ماديّة هو جدير
بها.
أمّا البعض الآخر فيعرض أرشيفه ومقتنياته الخاصة على مؤسسات كبرى في العالم متخصصة بهذه الشؤون، ويبرم معها عقوداً طويلة الأجل للحفاظ على هذا الإرث واستثماره بما يحافظ عليه ضمن مواصفات عالمية متخصّصة، وبما يدرّه عليه من أرباح تضمنها له بنود خاصّة في هذه العقود تجعله يعيش ميسوراً من إنتاجه ولا يحتاج
أحداً.
وعلى الرغم من أنّ الأمثلة العربية على ذلك محدودة وربّما على عدد الأصابع لكنّها لدى الغربيين تمثّل سلوكاً طبيعياً وشائعاً ومتداولاً، تبدأ من الأدباء الأقل شهرة حتى الأكثر شهرة، وقد لا يكون هناك أديب أو فنان أو مبدع في أي حقل من الحقول لا يفكّر بهذه الطريقة التي لا نعرف نحن عنها شيئاً، لا بل قد يستهجنها البعض الآخر ويلقي خطاباً استعراضياً جافاً وتافهاً عن أنّ الأدب للإنسانية وينبغي أن يكون متاحاً للجميع، وغير ذلك من بيانات الجهل التي فقدت قيمتها.
ماذا تبقّى لنا من الشعراء الروّاد على سبيل المثال لا الحصر سوى ما تركوه من دواوين شعريّة، وهم "روّاد" افتتحوا فجراً جديداً للقصيدة العربية ومن حقّنا أن نعرف تفاصيل غير شعريّة عن حياتهم ومقتنياتهم الشخصيّة، والأوراق التي كانوا يدوّنون عليها الكتابة الأولى لقصائدهم، حيث يكشف هذا عن أمزجتهم وخصائص ذواتهم الإنسانيّة.
وهل فكّرت أيّة وزارة ثقافة بمشروع حضاريّ وثقافيّ وإنسانيّ يجمع ما تناثر من أوراق ومخطوطات ومقتنيات شخصيّة تخص الشعراء العرب الروّاد وغيرهم من مبدعينا الكبار، وقد يكون هناك استثناء وحيد بما فعله المصريون مع تراث نجيب محفوظ، وحتّى هذه اللحظة بوسع المؤسسات الثقافية ووزارات الإعلام العربية أن تضطلع بهذه المهمات في مشروع ثقافيّ عربيّ عملاق، يجنّد له طاقات خلاقة لرصد ومتابعة أراشيف الأدباء والفنانين والمفكرين والإعلاميين والاشتغال على تحويلها إلى متاحف مشرقة تحكي قصّة الإبداع العربيّ الحديث.
ولا بدّ للأديب المحترم أن يحترم نفسه ولا يفرّط بأيّ ورقة صغيرة من خصوصياته، فبلدان أوروبا بمؤسساتها الثقافية والفكرية المحترمة تدفع الملايين لأجل الحصول على تراث أحد أدبائها، وتعمل منه متحفاً وتستثمره لتربح منه ملايين أخرى وتقدّم للإنسانية معرفة جديدة خارج المجال الأدبي المعروف فيما ينتجه الأديب من كتب صارت مشاعاً للجميع، وكلّ هذا يبدأ من أرشيف صغير يحفظ فيه الأديب أوراقه ووثائقه ومقتنياته الخاصة حتى يأتي وقت الاستثمار الحقيقيّ فيستثمرها على أفضل ما يكون.
لا بدّ من إشاعة ثقافة جديدة نتخلّص فيها من عبء الثقافة التقليدية ذات المرجعيات الكسولة وهي تحيل كلّ شيء على ما هو خارج الإرادة الإنسانيّة، لا بدّ من وعي مختلف ومغاير يتعامل مع الأشياء على وفق رؤية عصريّة تجعل من الإنسان الفرد قوّة عظمى، ولا ترتكن للشعارات والمقولات الباطلة أيّاً كانت مرجعياتها وجذورها وخلفياتها بلا قدسيّة حقيقيّة إلا للإنسان الفرد القويّ بذاته
وإبداعه.
ومن أخطر طبقات هذه العناية توجيه العناية الفائقة نحو المتحف الخاص بكلّ أديب عربيّ له منجز راسخ وأكيد، وأن نلتفت نحو القيم الإيجابية في الحياة بحيث يكون لكلّ شيء أرشيفه الخاص منعاً للعبث والفوضى كي نلحق بركب الحضارة ويكون لنا موقع محترم تحت
الشمس.