الإرشيف!

آراء 2020/10/14
...

جواد علي كسار
في المرّة الوحيدة التي التقيتُ بها رئيس وزرائنا، عندما التقيته قبل عدّة سنوات، سألته عن الإرشيف، ولم يدر في اللقاء أيّ كلام آخر، بل اتجه بمجمله إلى مصير الإرشيف العراقي بعد سقوط النظام عام 2003م، وما آلت إليه ملايين الوثائق، وأين صارت؟ ولماذا لم يتمّ العمل عليها، بتنظيمها وتصنيفها ووضعها بين يدي الباحثين والدارسين، بحيث لم يصدر للآن كتابٌ واحدٌ عن هذه الوثائق، عن جهة حكوميَّة أو هيئة مستقلة أو مركز مختص، رغم مرور نحو عقدين على غياب النظام الساقط؟
خلال الأشهر الأخيرة تواترت الأخبار عن تسليم أميركا كماً مليونياً هائلاً من هذه الوثائق، وأجزاء مهمّة من إرشيف العراق إبّان حكم النظام السابق، فانتعشت الأسئلة أعلاه وانطلقت مجدّداً، وقد انبعث الأمل مرّة أخرى، بنافذة نطلّ من خلالها كإعلاميين وباحثين، والأهمّ من ذلك كرأي عام عراقي؛ على دهاليز النظام، والتركيبة الداخلية لأخطر مؤسّساته العسكرية والأمنية والإعلامية، ما يكشف إلى حدّ كبير عن المنطق الذي كان يستند إليه في إدارة البلد ومعالجة ملفاته الكبرى، وطبيعة العقل الذي كان يفكر من خلاله.
بيدَ أنَّ شيئاً من ذلك لم يحصل، إذ ما لبثت أنْ تهاوت الطموحات وانطفأ الأمل، لأسبابٍ عديدة، يأتي في طليعتها علاقتنا السلبية غير الودودة في العراق، مع الإرشيف والوثائق والمذكرات، وغيابها شبه الشامل خلال العقدين الأخيرين، عن واقع إعلامنا وعمل مؤسّساتنا وباحثينا، إلا القليل بل النادر الذي لا يُقاس 
عليه.
كذلك هيمنة الموسمية، وأسلوب الإثارة على عملنا مع ملفات البلد، فمع بداية أي ملف يستثير موضوعه اهتمامنا على نحوٍ عاجل، فنسعى للتعامل معه، لكن ذلك لا يدوم، إذ سرعان ما تخبو عنايتنا به ونهمله ونركنه في زاوية النسيان، لنتعامل مع قضية جديدة، من دون أنْ نرتكن إلى منطق الاستمرارية والتراكم، فتبقى الملفات معلقة غير محسومة، بفعل الارتجال والنفس القصير، والشعور بالملالة والضجر من تراكم القضايا 
والملفات.
لكنَّ الأخطر من ذلك كله في سرعة عزوفنا عن ملف كبير كالإرشيف، والوثائق المليونيَّة التي تسلمناها من أميركا، هو طغيان رؤية كان لها الأثر الأسوأ، في إهمال القضية؛ ذلك حين أشاع البعض عن قصد أو بغيره، أنَّ فتح الإرشيف قد يتسبّب بتصدّع في التكوين الاجتماعي، وأصحاب هذه الرؤية اختزلوا الإرشيف ببعده الأمني وحده، وفرشوا الجانب الأمني على المشهد بكامله وغلّبوا المعالجة الأمنية على ما سواها، في حين إنَّ هذه الوثائق تمسّ صرح حياتنا برمته وهي منشأ قراءة جديدة لعقودٍ من حياتنا، فلا تاريخ بلا وثائق، ولا حاضر 
واعياً مستيقظاً لا يكرّر أخطاء ماضيه، من دون
ذاكرة!