الأستاذ الدكتور عناد غزوان (أنموذجاً أكاديميّاً رصيناً)

ثقافة 2020/10/14
...

أ.د.عقيل مهدي يوسف
 
قبل أكثر من ثلاثة عقود، انفتحت أكاديمية الفنون الجميلة على كلية الآداب، وبقي الكثير من الأساتذة المرموقين على صلة وثيقة بالفنون، ومنهم من وضع حتى مناهج الكلية، ومفردات أقسامها مثل الدكتور علي الزبيدي والدكتور جميل نصيف، والدكتور علي جواد الطاهر، والدكتور عبد الأمير الورد، والدكتور علي عباس علوان، والدكتور عبد الإله احمد، والدكتور قاسم حسين صالح، والدكتور محمد حسين الأعرجي والأستاذ مدني صالح، وسواهم، ومن بين هذه العقول الأكاديمية سطع نجم الأستاذ الدكتور عناد غزوان، في زمن لم تكن استفحلت فيه الصراعات الأكاديمية بين مناهج الحداثة، وما بعدها، وكان من الطبيعي ألا تسبق طروحات الدكتور عناد غزوان النقدية الزمن، ولكنه بفضل بصيرته المعرفية، كان قد قرّبنا حينذاك بطروحاته من أفضل الاتجاهات الأدبية، واللغوية، والنقدية، البارزة في عصرنا الحالي. في زمن كانت تنقصه التراجم المحدثة، والطروحات الأكاديمية الجديدة، ولم تكن (ميديا) التواصل الحديثة متوفرة كما هي اليوم، وعرف بموقفه الحساس من (البنيوية) و(التفكيكية) في بداياتها الشكلانية والتكوينية. 
عرفنا الدكتور عناد أستاذاً جاداً مثابراً متوازناً في أفكاره، ومشاريعه وتميز بموضوعيته في فضاء الأدب والنقد، وكذلك برز حرصه على من يتوسم بها النباهة والجدية، ومما يشرفني شخصياً حرص أستاذنا الجليل على أن أكون عضواً مناقشاً في كلية الآداب قسم اللغة العربية لأطروحة الدكتوراه، وضمت اللجنة نخبا أكاديمية مرموقة أمثال، الدكتور داود سلوم رئيساً، والدكتور عمر الطالب، والدكتور جميل نصيف، والدكتور ضياء خضير، وكان ذلك في تسعينيات القرن الماضي. 
كان من بين طموحاته العلمية أن يجد طلبته الطريق السوية التي توصلهم بعد دراسة أدبهم العربي أن يفرزوا الأصيل من الزائف حين يقيمون، الأدب (شعراً، نثراً، قصصاً، نقداً) وهم يعايشون هذه التجارب الإبداعية (جمالياً)، ولا يكتفون بذلك حسب، بل ينتجون أعمالاً فنية ونقدية، تؤطرها المعرفة بذاكرة التاريخ، وحساسية المعاصرة، لا مجرد اجترار القوالب الجامدة، وتكرارها أو السير على منوالها.
لقد أضاء الدكتور عناد بوعيه، ونافذته الرؤيوية، معارف طلبته من عراقيين ينحدرون من القرى والمدن، ومن أصول وأعراق وديانات وطوائف مختلفة، من دون تمييز بينهم، إلا بالقدرات والكفايات والمهارات والمواهب. وكذلك تربى على يديه طلبة عرب وأجانب، ومستشرقون وهم ينحدرون من مشارق الأرض ومغاربها. والكل يجد فيه ذلك الأستاذ المقتدر المتخصص في علوم اللغة العربية تخصصاً دقيقاً، والمرشد التربوي لطلبته وحتى زملائه أيضاً.
ولم يحتل هذه المكانة المرموقة إلا بعد أن تفحص موروثه القومي والوطني في حقول آداب اللغة ونقدها ومناهجها، بعقليته الناقدة التي مهدت للجديد حضارياً، وللنافع من دون انبهار شكلي بالزائل المرحلي، لأنه كان يتوخى توظيف هذه المعارف وتقنيتها، ومعرفة مصادرها وآلياتها حتى يصبح بإمكان الدارس أن ينتج خطاباً أدبياً ونقدياً، متماسكاً ومقنعاً ومؤثراً، في (متلقي) هذا الخطاب الإبداعي. امتازت مقارباته للدرس الأكاديمي، بعدم الاكتفاء بالمفهوم التقليدي لدروس البلاغة والتطبيق، والأسلوب والتعبير، وفقه اللغة، والأدب القديم، والوسيط والحديث، وعروض الشعر، حسب المنهج المقرر، ولم يكتفِ الدكتور عناد بالأصالة إلى مصادرها وأعلامها من الدارسين العرب الأفذاذ والمشهورين بل انفتح على (تقنيات) أسلوبية و(معاني) و(تأويلات) تخص اللغة والكلام والتداول حتى يتيح للطلبة الخروج عن النمطية والقولبة السائدة. وحين ترأست قسم التربية الفنية حرصنا أن على أن يقود مؤتمراتنا العلمية الدكتور عناد غزوان، وكذلك انخرط في الإشراف ومناقشة الكثير من دراسات الماجستير والدكتوراه في كلية الفنون الجميلة، وإلقاء المحاضرات وقد تشرفت معه في تلك المناقشات الخاصة ببعض الرسائل والأطاريح
، والمؤتمرات.
كان حرصه الأكاديمي يدفعه للحد من بعض الطروحات الفجة التي لم تنضج ثمارها بعد، لدى المتطلعين الراكضين في ماراثون الموضة الخائبة!، إذ وقف ضد أوهام الحداثة والصور الزائفة عنها، لأنه وجد أن بضاعتهم لا تتوفر بجوهرها المزعوم على أي فكر تحديثي حقيقي. رغم انه كان من جيله من الداعين إلى تجاوز نمطية المناهج التقليدية على وفق المتغيرات المعرفية المستحدثة. متحمساً إلى تبني رؤية شمولية في دراسة تراثنا، وموروثنا العربي القديم، وذلك للتحكم بدراسة هذا الإرث، الثقافي والحضاري، على وفق الحاجات الروحية (المعاصرة) في زمن تمر فيه الأزمات والثورات والتمردات التي اجتاحت العالم في أواخر القرن العشرين والتي تركت تأثيرها على طبيعة مجتمعنا في العراق في السياسة والبناء المعرفي للجامعة وكلياتها ومناهجها. إذ تداخلت الفضاءات الفكرية والعلمية، بطغيان الإيديولوجية، غالباً التي أفرزتها التبدلات في نظم الحكم وبرامجه المتقاطعة مع الآخر، المختلف في رؤاه، وستراتيجياته حد التناحر!!  هذا الاختلاف انتقل تأثيره إلى الأساتذة والطلبة أنفسهم، متخذاً أقنعة أدبية، ولغوية، وفنية، ونقدية محددة.
استطاع الدكتور عناد غزوان، بكفاءة قيادية للدرس الأكاديمي أن يطرح أنموذجاً للأستاذ الجامعي الأصيل، الذي يقرن المعرفة بالعمل، والسلوك الملتزم الجاد، واحترام الذات والآخر في سبيل الوصول إلى (مشهدية) معاصرة يرصّنها بآرائه، المدروسة وبتراجمه الثرية المحدثة لدى أدباء وكتاب ونقاد أجانب ينتقيها بتحسب منهجي، وضرورة تمليها عليه مواقفه التخصصية وأفكاره النقدية، ورؤيته الخلاقة، ضمن سلسلة تتواصل حلقاتها في خطة بحث متكاملة، لتكون خلاصتها ومغزاها فتح (حوارات) أكاديمية مع نخبة متعلمة مثقفة في الحرم الجامعي ومراكز البحوث ومؤسسات الترجمة وحلقات الأدباء والفنانين، وكذلك يتواصل مع عموم القراء عبر الصحافة والوسائط المرئية والمسموعة. بإمكانك أن تدرك أهمية هذا الحضور الأكاديمي للأستاذ الدكتور عناد غزوان حين تترصده وهو يقف باقتدار شامخاً فوق منصته الجامعية الرصينة، وحين تطبق عليه (معايير) الجامعات العالمية، وأعرافها وجودة مخرجاتها ستراه من أوائل المبادرين إلى نشر علمه، وهو أول الذين يحثون الخطى لابتكار موضوعاته الجديرة بالدراسة، بخلاف البعض من المتخفين المتبخترين عن المنجز الحقيقي الأكاديمي حتى أن تخفوا تحت أقنعة جامعية زائفة! لأنهم حاضرون ولكن بلا ابتكار ولا تجديد ومن ثم لا يمكن التعامل معهم بوصفهم (عينة) ممثلة للمجتمع الجامعي والأكاديمي الحق. كان عناد غزوان وبعض من زملائه من الطراز الرفيع، الذين ينتقلون من ظلال الصمت والعدم بفاعلياتهم الاجتماعية والتاريخية وتفرده بجاذبية شخصية، واقتران محاضراته الحيوية بالمفيد والممتع (نظرياً) و (تطبيقياً) وغالباً ما تجده يقدم العديد من الأمثلة والشواهد التي (تجسم) المواقف التجريدية وهو يتسامى برخامة صوته، وانسجام نغماته، بروحه الاحتفالية البهيجة، التي تقترن فيها الحكمة بالمزحة، والمغزى بالنادرة، والكلام العابر بالأمثولة البليغة، وهو يقتدي بالرسول الكريم (ص) الذي (كان يمزح، ولا يقول إلا حقاً).